قصة قصيرة “عاصفة الصمت مع الجنية” – منير الدايري

في غرفتي الضيقة أقف مرتديا بجامة النوم القطنية التي أجد فيها بعض الراحة، أتنقل بعينيّ بين الشباك والباب كمن يترقب ظهورًا خارقًا، قلبي يخفق بقلقٍ يشبه عواصف الغابات السحرية، وخوفٌ خفي يتسرب إلى يديّ الباردتين كأنني أحس بحضورٍ غير بشري. منذ الأمس، أتخيل أن شجارًا عنيفًا اندلع بيني وبينها – تلك الجنية التي اختلقتها في ذهني لتشاطرني هذا البيت الخالي – لم أعد أعرف كيف أواجه خيالي. تخيلتُ أنني تركتُ لها الغرفة، انسحبتُ إلى زاويتي كمن يفر من سحرٍ قد يبتلعه، لكن اليوم حان وقت عودتها في قصصي الوهمية من عالمها الخفي، وأنا هنا، أسأل نفسي في حيرة: هل أكلمها حين تظهر في مخيلتي؟ لا، لن أفعل. لن أرد على صوتها الآسر الذي أنسجه من فراغ حتى. يجب أن تعتذر هي أولاً، أن تمد يدها الناعمة كالضباب للمصالحة، لكنها – أعرف طباعها التي صنعتها – غاضبةٌ مني لأنني لم أودعها صباحًا في خيالاتي، تركتُها تتلاشى في الضوء دون أن ألتفت.
قررتُ ألا أخرج من غرفتي، ألا أقابل شبحها المتخيل. بدأتُ أدور في المكان ذهابًا وإيابًا كمن يحاول كسر تعويذةٍ من صنع عقله. أحسستُ بقدومها، خطواتها الخفيفة كهمس الريح تقترب في أفكاري، تحمل رائحة الغابات البعيدة التي أرسمها. ماذا أفعل؟ اقتربتُ من النافذة، أنظر إلى الخارج بعينين مضطربتين، العرق يتصبب من جبيني وأنا أتمنى لو تظل مختفية في عالمي السري، لو تمنحني وقتًا لأستعيد أنفاسي. لكنني أعلم، بمجرد أن أرسمها في ذهني سأضطر للحديث، وإن لم أفعل سيزداد غضبها – غضب جنية من خيالي لا يُطاق – وسيتسع الخلاف بيننا كفجوةٍ بين عالمين أختلقهما.
“لا، لن أخرج، لن أقابلها”، كررتُها لنفسي كدعاءٍ يصد السحر الوهمي، ثم عدتُ لأنظر من الشباك، أدقق في الظلال البعيدة علّني أرى صورتها تتشكل من الضباب الذي أتخيله. هل ما حدث بالأمس في ذهني يستحق كل هذا؟ لماذا انفجر غضبها الخارق الذي صغته، وأطلقت كلماتٍ جارحة كالسهام المسحورة التي ما زالت ترن في صدري؟ هل ردي عليها في حواري الداخلي هو ما استفز كبرياءها الجني؟ اقتربتُ من الباب، أصغيتُ بأذنٍ مرتعشة لأي صوتٍ يحمل نغمة حضورها الساحر الذي أبتكره. الحيرة تعصف بي: أحدثها أم أصمت؟ إن حدثتها، قد تستعمل سحرها المتخيل لتجعلني أنسى كرامتي، وإن صمتُّ، ستشتعل نار غضبها في رأسي ولن تتركني أعيش بسلام.
تعبتُ من الوقوف، فجلستُ على أريكتي الخشبية، أسندتُ ظهري وأغمضتُ عينيّ، أحاول تهدئة نفسي كمن يبحث عن تعويذة سلامٍ وسط لعنة من صنعه. فجأة، سمعتُ صوت باب الشقة يُفتح في خيالي بصوتٍ خفيف كأن الريح دفعته. ها قد أتت، قلتُ لنفسي. قلبي بدأ يدق كطبولٍ قديمة في طقسٍ غامض أختلقه، يرتجف من توقع ردة فعلها. إن خرجتُ، قد تُذلني بابتسامتها الساخرة كما فعلت في خيالاتي بالأمس، وإن بقيتُ، ستظهر أمامي لتلقي عليّ لومها الساحر. “يا إلهي، ماذا أفعل؟”، همستُ لنفسي، ثم قررتُ: سأثبت مكاني، سأبقى على أريكتي، أرى ماذا ستفعل هذه الجنية التي صنعتها. لن أعيرها اهتمامًا، كما أهانتني في أفكاري بالأمس ولم تبالِ بحزني، لم تحاول حتى أن تهدئ روحي بكلمةٍ رقيقة.
دقات قلبي تسارعت، كادت تتوقف من شدتها، وريقي جفّ كأرضٍ لم تمسها الأمطار. سمعتُ طرقاتها على الباب في ذهني، مرةً، ثم مرتين، كنقرٍ خفيفٍ يحمل تهديدًا سحريًا، لكنني لم أرد. ثم، ساد الصمت. انتظرتُ أن يُفتح الباب، أن تظهر هيئتها الساحرة التي رسمتها، لكن شيئًا لم يحدث. مرت لحظاتٌ ثقيلة، ولم أسمع سوى هدوء الغرفة الحقيقي. فتحتُ عينيّ ببطء، نظرتُ حولي، فلم أجد سوى جدراني الفارغة والشباك المغلق. لم تأتِ. لم تكن هناك جنية، ولا شجار، ولا سحر. كل هذا لم يكن سوى تخييلٍ نسجته الوحدة في عقلي، ليملأ فراغ هذا البيت الصامت، تاركًا إياي أواجه الحقيقة: أنني وحيد، وأن العاصفة كلها كانت مجرد صدى لصمتي الداخلي.