ثقافة و فن

“لو يخجل الموت قليلاً” ومساءلة الفقد والغياب بلغةٍ تُربك الموت-منير الدايري

في زمنٍ تكاد الكلمات فيه تُختصر إلى مجرد أصداء عابرة، وفي زمن يحصد فيه الموت المادي والرمزي، الأشخاص والبنيات ويجرف الأزمنة والأمكنة، يحصد الصور والذكريات، ويُفقد الحياة روحها ومعناها، يأتي الكتاب الأخير “لو يخجل الموت قليلاً” لعبد العزيز كوكاس ليُعيد للحروف هيبتها، وللغة شاعريتها العميقة التي تتسلل إلى الروح كقطرة ندى تُحيي زهرة ذابلة. هذا العمل، الصادر حديثا عن منشورات النورس في حلةٍ أنيقة، ليس مجرد مراثي للذات وللأحبة الذين رحلوا، ولرموز الفكر وأعمدة الصحافة من أصدقاء الكاتب ممن واراهم الغياب، بل نشيدٌ للغائبين، وتأملٌ فلسفيٌ يُسائل الموت والفقد بقلمٍ يجمع بين خفة الزهرة وعمق البحر، كما وصفته الصحفية المقتدرة سعاد ازعتراوي في قراءتها العاشقة المنشورة بجريدة “الزمان” اللندنية يوم، 7 مارس 2025.
الكاتب والإعلامي المغربي كوكاس، الذي عُرف بقدرته على مزج الصحافة بالأدب في تناغمٍ نادر، يقدم في هذا الكتاب تجربةً استثنائية تتجاوز حدود النص التقليدي لتصورات الرحيل والفقد والليس والفناء والموت. إنه يرسم مرآةً للغياب، يُنعي فيها ذاته وأحبته بين الأموات، بلغةٍ شفيفة تُثير الدهشة وتُوقظ الحواس. يقول في تأملاته: “في كل لحظات الفواجع، كنتُ أصل متأخراً عن الموت ببضع ثوانٍ فقط”، وهنا تتجلى قدرته على تحويل الوجع الشخصي إلى صرخةٍ كونية تُواجه سطوة الفناء. إنها دعوةٌ للموت كي “يخجل قليلاً”، ليس خوفاً منه، بل رغبةً في استرداد لحظات الحياة التي يسرقها الرحيل”.
يثير العنوان الشاعري “لو يخجل الموت قليلاً” تأملات عميقة حول العلاقة بين الإنسان والموت. فهو يجسد رغبة دفينة في تأجيل الموت أو تلطيف قسوته، (لو حرف اتناع الامتناع)، مما يعكس الأثر العاطفي لفقدان الأحبة. وإضفاء صفة “الخجل” على الموت يمنحه بُعدًا إنسانيًا، مما يعكس محاولة لفهمه والتعامل معه بشكل أقل رهبة. كما أن العنوان يعبر عن أمنية ضمنية في تأجيل الموت، لمنح الأحباء مزيدًا من الوقت معًا. ونحس أنه على الرغم من الرغبة القوية للكاتب في تأجيل الموت قليلا، يعكس العنوان قبولًا ضمنيًا بحتميته وسلطته المطلقة.
يتناول كتاب “لو يخجل الموت قليلا” تجربة الموت والغياب من منظور فلسفي وجداني، حيث يطرح الكاتب تساؤلات عن معنى الحياة والموت في ظل الفقد المستمر، يؤكد على إمكانية مواجهة الموت بفهم وتأمل، مما يضفي على التجربة الحياتية عمقًا ومعنى.
“لو يخجل الموت قليلاً” ليس مجرد عنوان، بل هو نافذة على تأملات إنسانية عميقة حول الفناء والفقد. يعكس رحلة الكاتب في محاولة فهم الموت والتصالح معه، يقول المفكر محمد هاشمي في تقديمه للكتاب: “المعركة المؤلمة حيال الصمت والكلام، الحضور والغياب، ضمير المتكلم وقد جندله ضمير الغائب الكئيب، هي ما سيرفع رايتها الأستاذ المبدع عزيز كوكاس في هذه المرثية السعيدة والعميقة، إنه من جهة يحاول تهريب ضمير المتكلم نحو مملكة الغياب، فيأخذ بشكيمة الكلمات في مهارة فارس خيَّال، ويُرغمها على أن تقولَهُ حتى وإن غاب يوما، وهي تسعفه في ذلك طائعة، بقدر ما يستطيع تطويعها وترويضها كي تنكفئ على نفْسها فلا تترك في الخطاب فراغا، وهذا ما نستشفه من عبارات كثيرة من قبيل “أحسسْتُني”، “اعتقدْتُني”، لقد كانت هذه المرثية الباذخة والصادقة والمشحونة، صراعا قويا مع ما لا تستطيع الكلمات قوله، لأن الموت هو ما نراه حينما لا نرى شيئا، وهذا العماء الثقيل الذي يعز عن الكلام، هو ما تحدّاه مبدعنا كي يفرض على الكلمات تجاوز المساحات الممنوعة والصامتة للعدم أو اللَّيس، كما يحلو له مستلهما معجم الكندي، وقول ما لا يَنَقالُ، هذا ما جعل “الصفحة الأخيرة” عنوانا لمقدمة مرثية الغائبين هذه، إنها دُربة الكتابة حينما تتحول إلى فن ترويض الكلمات وليس فقط تنميقها وتوشيتها: “تعلمت فن تدوير الكلمات وسحر أثرها، عشقت الليل وآخره بجنون.. كنت نحيفا مثل ساقي طائر الكركي، حتى أن أقل نزوة ريح كانت تسحبني معها بعيدا، فأراني في الأفق محلقا..” وهي ريح تسحب القارئ أيضا إلى عتبات القول المستحيل؛ أو على الأقل إلى الممكن من “الرثاء الذاتي” ومن الحضور في الغياب”.
“لو يخجل الموت قليلاً” ليس مجرد مرثية ذاتية، بل هو مواجهةٌ شجاعةٌ مع أسئلة الوجود الكبرى بنفس شعري وعمق تأملي. يتساءل كوكاس: “ما معنى أن تبقى حياً بعد أن قُدتَ أقرب الناس إلى قلبك نحو خاتمتهم؟”، وفي هذا السؤال يكمن عمقٌ يتجاوز الشخصي ليصل إلى الإنساني. لأنه يُعانق الفقد لا ليبكيه، بل ليُعيد تشكيله في قالبٍ يُضفي على الحياة معنىً جديداً.
لا يكتفي صاحب “لو يخجل الموت قليلاً”، بتأثيث جنازته الخاصة بمشهديةٍ بصريةٍ تخطف الأنفاس، بل يُعيد الحياة إلى الراحلين عبر كلماتٍ تُنبض بالحضور. كما يشير المفكر محمد هاشمي في تقديمه للكتاب، فإن كوكاس “يمتشق سيف ناطور الفسح الباردة لليل الغياب”، مُحولاً نفسه إلى “حارس وادي النسيان” الذي يُنقذ الذكريات من مصائد الجحود.
ما يميز هذا العمل هو لغته الساحرة التي تجمع بين الفخامة والرقة، فهو لا يكتب ليُسجل الحدث، بل ليُحيي المعنى. يقول هاشمي: “هذا الحارس الذي فرش كلماته للغائبين كي ينبعثوا مرة أخرى في ضوء الكلام”، وهكذا يستعيد الأب والأم والأصدقاء ملامحهم في خيال القارئ، كأننا نجالسهم من جديد. هذه القدرة على كسر صمت الموت بالكتابة تجعل من الكتاب تجربةً لا تُمل، تدفع القارئ لإعادة قراءة صفحاته مراتٍ ومرات، كما اعترف الناقد بمتعة التيه في تخيلاته الفلسفية ورؤاه الساحرة.
يُعد “لو يخجل الموت قليلاً” إضافةً نوعيةً إلى المشهد الأدبي المغربي والعربي، وتحفةً تستحق الإشادة لما تحمله من شاعريةٍ مُربكة وعمقٍ يُضيء الظلال. إنه كتابٌ يُثبت أن الكتابة ليست مجرد فعلٍ إبداعي، بل سلاحٌ يُواجه به كوكاس غرابيب الصمت، ودعوةٌ لنا جميعاً كي نُعيد النظر في غياباتنا بقلوبٍ مفتوحة وعيونٍ ترفض النسيان. كما قالت ازعتراوي، إنه عملٌ يدعو لعشق الكلمة، ويُذكرنا أن الأحلام، حتى في حضرة الموت، تبقى غير منتهية الصلاحية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى