حين قلت هبة الفران وشخوصه ،انهارت قيم منها حب الإنتماء للحي للدرب للحومة..للوطن..ودمرت أخلاق وشيم..

محمد جرو/الطنطان/تنوير:
فران حسن ،فران الشباب فران محماد .فران احماد وسعيد .تختلف التسميات والأحياء والدروب والحومات ،والمسمى واحد الفران ..
هذا الشامخ الذي ظل واقفا ،رغم دخول “فريرينات”بالغاز أو بالكهرباء وعجانات،لم تملأ فراغ فران لحطب ولخشب..حتى أصبحنا نغني تحيرا ومجازا”خبز الدار ..ياكلو البراني” ..وبدأت مظاهر إنسانية تختفي ،مقابل عنف وغرائب هذا الزمان تظهر ..
أكثر من ذلك وأعمق في التمثل الشعبي ،والمشترك الإنساني المغربي ،لعب دورا جوهريا في شد لحمة السكان ،علم قيم وكانت له هبة ووقار وسلوكيات أخلاقية بدأت تخبو مع اندثار الكثير من الفرارين بالمدن المغربية ،أعظم قيمة رسخها فينا الفران هي حب الإنتماء ،للحي وللدرب وللحومة وبالتالي لهذا الوطن ،بكل ما يعنيه الإنتماء وتمظهرات ذلك تنسحب على حب الآخر ،مساعدة العجوز الدفاع عن شرف البنت ..الإحترام…الخ
الوصلة أو الطبگ لمعلم الطراح آلخ لن تنمحي هذه ال مصطلحات النواسطالجية من مخيلاتنا ،ولايمكن أن تخرج من البيت دون أن تمر أو تقف أمام هذا الفضاء ذي الهيبة والشموخ،بل في مدن مغربية قديمة ،قيل بأن الأمثال الشعبية أسبقت(الفران اسبق جامع) الفران عن الجامع قبل تشييد أحياء ودروب ،وتغنى منشدون وغيرهم ،بالملحون أو أنواع أخرى بالفران وخبزه ،ومنها قصيدة “الفرانة”لشاعر الملحون بلعيد السوسي ،ولا يرتبط الفران بطهي الخبز فقط ،لذلك فهو عشق لا ينتهي ،ممتد فينا وفي ثقافتنا الشعبية وموروثنا ،أفضل طهي اللحم او الحوت أو الحلويات هو حينما “تديها”لفران لحطب ،وكم نسجت حكايات وطرحت أسئلة قد تبقى دون أجوبة مقنعة للبعض حتى الساعة ،كيف يتمكن “لمعلم”و بمساعدة “الطراح “أن يتعرف على خبز كل وصلة وطبگ وعدده خاصة مع لحظات ذروة الوقوف بطابور وفي احترام تام لأسبقية النساء والشيوخ عن الشبان والأطفال في أخذ خبزهم ،ويبدا الصياح لمساعده “هذي (في إشارة للوصلة أو صينية أو طبگ)خبزة وگرصة ،جوج وگرصة وهكذا حتى يصطف الجميع في منظر يوحي بانضباط عسكري ،وقد توضع لوصالي والصينيات في دروج أنشأت لهذه الغاية ،في انتظار حضور أهلها..
إن الفران كان يمثل إحدى المكونات الخمسة المؤسِسَة للتجمع السكاني في أحياء المدن الى جانب الحمام والسقاية وجامع، للأسف نبتت مكانها مقاهي على الرغم من كونها مكون أساسي ،إلا أنها في بعض الأحياء أصبحت تؤدي أدوارا مشينة ،ويستغلها البعض من ممتهني بيع المخدرات لتوزيع سمومهم حتى أصبحت مزعجة للسكان جراء الخصومات والعنف الممارس داخلها فالفران من الأساسيات العمرانية لذوي الدخل المحدود ،نتحسر أيضا لغياب إحدى مكملاته وهي الرحى ،وارتباط ذلك بأنواع تهييء الخبز المغربي من گمح وشعير وذرة ونخالة..
كان سكان الحي يحسبون لمول لفران أو لمعلم أوالطراح وهم طاقم الفران الف حساب، بل هو واحد من “أفراد العائلة”خاصة في المناسبات الدينية والأعياد ، وله نصيب من لفطرة ،بل لحد الساعة ،ورغم وفاة الأمهات والآباء ،يوصون به خيرا ،ولمست شخصيا ذلك بالحي المحمدي وسيدي مومن ،حينما أحل ضيفا مكرما ومعززا لدى عائلة المرضي ،فالراحلة والدتهم لاتنسى الطراح كل يوم جمعة من تذويقه گصعة كسكس شهي ،كما الإخوة داخل وخارج المغرب ،تبرز شهامة وثقافة أهل المرضي ،وقد ينسحب ذلك على أسر بيضاوية وغيرها ،لاينسوه من ألبسة وأحذية مثل كسوة أبنائهم وبناتهم ،حتى من حلوة العيد له حقه وأثناء الأعراس وحفل الحقيقة (ـلسم أوسبوع) والمأثم مول الفران حاضر ،وهذه من تجليات تغلغل الفعل التضامني والتعاضددي داخلنا يأبى الإندثار في صراع متواتر جراء متقلبات الدهر المتسم ،بثقافة دخيلة وسلوكيات مقيتة…
من قدسية الفران ،قداسة الخبزو احترام فائق لا يساوى بينه بين الأزبال، بل يحفظ به في أكياس معزولة سواء داخل البيوت أو خارجها لأنه يسمى “نعمة الله”، لذلك يقبل إذا عثر عليه في الأرض ويوضع في ثقب في الحائط أو في مكان مرتفع حفظا له من أن تدوسه الأقدام ويلوث بالأوساخ،وتتجلى قداسته أكثر في تخصيص دعاء له
“الله يعطيك خبزة مستورة ما عجنوها يدين ما شافوها عينين ما طابت فالفران”وعشنا حتى سمعنا مدرس مصري لنا بالمعهد الملكي لتكوين أطر الشبيبة والرياضة ،الأستاذ يحيى الأهواني ،وهو يصف كيف أن المهنة هي رزق ،أي مهنة بنعتها “الخبزة المعلقة”
وهو أيضا مصدر دخل حين يبوسه إذ منا من يتصدق به ولتطور وتقهقر الأسر ماديا ،هناك من يبيعه لأصحاب المواشي أو الحيوانات الأليفة ،وحصلت معي حكايات بالمخيمات الصيفية بالطنطان وخارجها ،حين “حصلت”(ضبطت)من يوصي الطباخات لملىء “خنش شتم “(نوع من خناشي بالصحراء )ببقايا الخبز لتباع فيما بعد ،والتي للأسف تهدر(أكوام من الخبز) بمخيماتنا أنذاك أما الآن “فتريطور” استحوذ على كل شيء وفقد المخيم طعمه كما فقدت نكهة الخبز ..ومن استعمالاته في الموروث الشعبي المغربي ،”حتى حاجة ماضيع”طازج أو يابس بالبيوت فاليابس منه الذي فضل من الاستهلاك، يحتفظ به إلى أن تحضر منه وجبات مثل “تختوخة” في فاس القديمة بإدام وقديد الخليع، أو يدق ويفور مثل الكسكس ويؤكل بالقرفة والسكر والحليب. وفي مناطق أخرى من المغرب تصنع منه أكلات مختلفة، منها “الرْفيسة العَمْية” التي تحضر هي الأخرى بالگديد وحبوب القمح،كما أنه لإعطاء صورة عن الإعتماد على النفس وبناء الشخصية يقال لك “خبزك عجنو بيدك لاتشرك فيه حد”
بالطنطان كما بباقي مدن المغرب ،ارتبط الفران ،حينما أرادوا تشويه صورته ،مثلما زور وشوه كل جميل لدينا،أو فقط لعمق التفكير المغربي ،ربطوه ب”تاشكامت”خاصة مع بوادر أزمة الصحراء ،فيقال أثناء نعت لإحداهن أو أحدهم ،”برگاگ(ة)”كيوصل/توصل لخبز الفران”وكم تم حرق أبرياء بهذا السلوك ،إناثا وذكورا ،فتم حرقهن/هم لدى الجهات المعنية،من طرف مصطلح لايقل ارتباطا بالفران “شواية” ،كما أن لكل طبقة أو فئة فرانها ،ففران الشيخ عبداتي وفران احماد وسعيد وموح ليس فران الشباب وغيره حين بدل الحطب بالكهرباء كما أن ضريبة “التمدن”سرب العجز إلى نسائنا اللائي أصبحت الكثيرات لا تعجن فحلت مكانها عجانة إلكترونية انذارا بغزو التكنولوجيا البيوت ..وبالتخلي عن أمر يومي كنا نتلقاه “دي الخبز الفران”
خبز الفران بالطنطان كذلك يذكرني وفي القريب هذه المرة ،حين كلف والدي من طرف مسؤول إقليمي بتوزيع خبز الفران على طلبة وحفظة القرآن بمسجد المسيرة ،بفضل أريحية آل مبارك اوجامع جازاهم الله ،سرعان ما حرف ذلك عن هدفه النبيل ،فاستقال والدي عن أداء المهمة مكرها ومفضلا النأي بنفسه عن كل ما يمكن أن يفسد نيته ومقاصده الشريفة ببيوت الله ..
إن للفران وللخبز ومشتقاتهما وإخوانهما وأخواتهما ،دلالات عميقة في الوجدان الشعبي المغربي وجب الحفاظ عليه ولم لا إدخاله في الموروث الثقافي الشعبي الإنساني ،وفي ظل الحديث عن الحفاظ عن البيئة وخفظ استهلاك الطاقة ،التحسيس والتوعية بأهمية الحطب ومنه الأشجار كثروة وإرث مهم وطني لايقل عن باقي الثروات التي تنهب صباح مساء قد تصيبها بالإجتثات وتندثر.