ثقافة و فن

من قراءة رواية (3) إلى بناء الربط القار الثقافي المارابيديس عملة الصرف العالمي باسم مغربي-أحمد الخمسي

من ألمانيا إلى الميكسيك تحتها توقيع ملوك اسبانيا.

 كانت المارابيديس عملة الصرف العالمي باسم مغربي. أو لما كانت الرموز المغربية تحمل تحتها توقيع ملوك اسبانيا. من ألمانيا إلى الميكسيك. يومها كانت اشبيلية نيويورك العالم.

***

عندما بدأت قراءة رواية طنجرينا، كنت أستعمل أساليب شخصية لتذكر شخصيات الرواية. ولأن شخصية محورية تتردد كثيرا في السرد، تخيلتها كلمات مغربية لتقترب من المتخيل الراسخ في ذاكرتي المحلية. فبدأت أردد: الفقيه السي بو لبيدة. والبيدة هو تصغير اللبدة وهي رقعة الثوب التي يحملها الشخص معه يوم الجمعة للصلاة في المسجد. ومن تم، سهلت عليّ العودة إلى الاسم الاسباني المندمج للشخصية المحورية: سيبولبيدا، وهو ضمن الأساليب التي يستعين بها من يعشقون العيش وفق أفكارهم دون الإصابة بالانعزالية الفكروية أو بدكتاتورية العقل وهو ما يصيب مثقفي العالم الثالث بوهم “الدكتور المفكر”.

وفي المرحلة الثانية، انكببت على الأفكار المتداولة. ولكي أقترب من المعاني التي يستهدفها المؤلف، بذلت جهدا للاطلاع على الثقافة والتاريخ الاسبانيين. لكن من أبواب جانبية، أي اللغتين العربية والفرنسية. هدفي من هذا الاقتراب ألا أتعسف على المؤلف بفائض من التأويل.

من جملة المفاهيم المستعملة مفهوم التنوير.

بدأت مع المؤلف، باقيا على يقيني الحذر تجاه فوائد التنوير مثل سيبولبيدا في رواية طنجرينا الرائعة. مع الإعداد لتغيير حالة الجهل التي يوجد عليها من يشبهونني مفعمين بالقراءة العربية والفرنسية القديمتين (ما قبل الانترنت)، توغلت ما استطعتُ في ما له علاقة بالتاريخ الاسباني. وحده نزوعي نحو التاريخ بقي من الثوابت، لم يتغير. لأن التاريخ مثل الخابية التي يختبئ فيها الكنز تحت التراب.

من خابية التاريخ، توجهت عبر الفرنسية نفسها، لتجميع معلوماتي حول اسبانيا، وأنا واع بهذه المفارقة: الهدف الاطلاع على التاريخ الاسباني ولكن من معين اللغة التي حرص ساسة بلادها في العهد القديم (ما قبل الانترنت) على تشكيل صور البلدان (بما فيهم فرنسا والمغرب واسبانيا) بالملامح التي تحبِّب القراء في فرنسا وهي ماسكة بقصب السبق في كل شيء(؟). غير أن هذا الحذر والانتباه إلى مراجعة ما قرأته من قبل بما سوف أختار قراءته من بعد، بنفس اللغة الأوربية (الفرنسية) عن بلد أوربي يقف سور الجهل لديَّ بلغته الاسبانية دون اقتحام ما يوجد بداخله.

لكن مكاسب التنوير راسخة داخل بنية الثقافة الفرنسية، منها تعدد زوايا النظر، وتنافس الكُتّاب الفرنسيين، والوعي النقدي وروح النقد الذاتي وإن من زاوية نقد الآخر الفرنسي من طرف الفرنسي الآخر.

فمن الفرنسيين من يتخصص في ذكر مثالب الاسبان أوقات الصراع بين البلدين، ومنهم من يتخصص في جرد حسنات الاسبان عندما تدعو حاجة الدبلوماسية الفرنسية إلى ضرورة رسم الوجه الاسباني الحسن.

ولأنني مواطن من بلد مسه الاستعمار وهو مرحلة ما بعد التنوير، فزاوية النظر التي تندمج في عروقي تنويرية في لحظة وما بعد الاستعمار تارة أخرى. بمعية هذين المجدافين حاولت استجماع ملامح الصورة الاسبانية.

أما التربة النفسية التي تستقبل تلك المعلومات والتأويلات كلها فهي تربة مغربية، ليست فقط متأثرة – عن حب- بالثقافة الفرنسية، بل من معاناتها كتربة نفسية ذاك الحب الأول الغائر لدى المغاربة نحو اسبانيا الأندلس،. فالولع الاسباني في اللاوعي المغربي ضمير مستتر، يعني أعمق من الفوائد السطحية لمن يستفيد في نمط عيشه من الاطلاع على اللغة الفرنسية. الولع الاسباني الخفي سابق عن التنوير، غابر تحت المسام.

***

إذن، من الاشتراك مع سيبولبيدا (شخصية رواية طنجرينا) في الإمساك ببوصلة التنوير، انتقلت إلى خوان خينيس سيبولبيدا القرن 16، وقد سبق لي الإشارة إلى الراهب الطيب برطولومي دي لاس كاساس في المقال السابق. وبالتالي قادني لاكاساس إلى نزاع بلد الوليد ومناظرته مع خوان خينيس سيبولبيدا.

أرجع إلى تفرعات مناظرة بلد الوليد بين المؤرخين الاسبانيين الاثنين، فأجدني استفدت بما يشبه تحقيق القطيعة الابستيمولوجيا مع وعيي السابق عن الاهتمام بالتاريخ الاسباني. من لحظة الشذرات المشتتة، إلى استيعاب “مجمل تاريخ” اسبانيا. من اللامبالي إلى المهموم بملء الفراغ الفظيع الذي تركه لديَّ كتابنا المدرسي حول اسبانيا.

لا أخفي التقاط أوتيغا إي غاسيط دعوته العالم العودة إلى التاريخ الاسباني للاستفادة من معينه الغني. ولأن أمريكو كاسترو مترجمة بعض كتبه إلى العربية، فقد التقطت منه أيضا التساؤل الجوهري والعتبة الضرورية للتجول بإمعان في ما يمكن توصيفه بأغنى تاريخ لبلد أوربي في القرون الإثني عشرة الأخيرة: تاريخ اسبانيا. تساؤل أميريكو كاسترو: من هو الاسباني؟

لا بد أن أعترف أن التقدير الذي أحمله للدور الاسباني من قبل في الثقافة العالمية، يكمن في أن يكون فيلسوف من طراز سينيكا قرطبيا وليس لا روماني ولا يوناني. أما أن يتفق الأقدمون والمحدثون بصدد “لوثة” القيمة الأصلية التي حملها سينيكا بقي يحملها الاسباني في القرن التاسع عشر من خلال وصف أهم الرحالة الفرنسيين، وهي “لوثة” عزة النفس واكتفاء الاسباني بما لديه، فتلك قيمة مركزية تتوزع منها كل القيم. وهو ما يضفي على شخصية الاسباني في نظر الغربيين بعضا من الغموض. لأنها صفة دسمة لدى الاسبان يشتركون فيها مع الشرق كل الشرق، من العرب إلى الهنود إلى الصينيين. وهي صفة الشعوب الأصلية التي تحتمي بما لديها خوفا من الابتلاع من أي جهة جاء.

ذكرت سينيكا، كي أبعد شبح النقد الذي يلصقه من لا يتفقون مع أميريكو كاسترو به في قوله باكتمال ملامح “الاسباني” بعد سنة 711. وحتى أبعد شبح الهوية القاتلة (أمين معلوف) وكذا المذهبية السلفية المتحجرة.

***

لا أريد أن أطيل. كيف لا يمكن لمغربي أن يتمعن في ابن عربي من زاوية مشارب التصوف الإسلامي دون أن يجد نفسه قريبا من ريمون لول؟ وكيف يمكن لمغربي فهم الحب العذري دون الربط بين ريمون لول وبين ابن حزم (طوق الحمامة). ولأن التأثير الاسباني ضارب في الثقافة الفرنسية فلا عجب أن نجد الفرنسي لويس سيباستيان ميرسيي (ق.18)، يعيد تخيله “تأملات ناسك” لما سبق لبوكاص (ق.14) دون أن يستحضر الملك كارلوس كينطو في معبد الرهبان والسلطان المولى سليمان، يزهدان في الملك، بنفس النفحة؟

يقودنا الوجدان الديني المتشابه لدى الملوك في البلدين، إلى رد الجميل من طرف المجتمعين في المغرب واسبانيا. في المغرب يرسخ شارع علال بن عبد الله بالرباط هذا الدور الشعبي وفي اسبانيا ترسخ لوحة غويا “3ماي” بمدريد.

***

ولأن الشيء بالشيء يذكر، يذكر أميريكو كاسترو صيغ التعبير المشتركة بين اسبانيا والبرتغال وبين المناطق العربية من طنجة إلى دمشق، وهو ما قادني إلى الاشتغال عم يربط المجتمعين، لكن في غفلة من الاسباني والمغربي، نقطة العملة الاسبانية التي بقيت زهيدة مستعملة من طرف الاسبان في الأسواق بشكل أو بآخر إلى سنة 1862، أي ما بعد حرب افريقيا (تطوان: 1860)، أعني “المرابيديس”، وأصلها المغربي “المرابطي”، تذكرت أن المغاربة عندما يريدون التعبير عن تفاهة شخص يقولون أنه “ما يسواشي بسيطة”، لأجد ما يقابلها عند الاسبان كون الشيء الذي لا يستحق الاعتبار لا يساوي أربعة مارابيديس، ولمغاربة آخرين تعبير جوج فرانك، أيضا.

قد يستصغر القارئ المغربي المار مر الكرام عن المقالات المتعلقة باسبانيا،  مدعيا اعتبار عملة المارابيديس كمظهر كبير في الارتباط بين التراثين، تضخيم غير مستحق. لا أنكر أن هذا الاحتمال ورد في ذهني عندما عثرت عليه جزافا. لكن حرصت على البحث في مجال النقود الاسبانية بمعايير بارزة في تاريخ البلد الجار، فوجدت علامتين بارزتين في المعاملات الرسمية في المشاريع التي رسخت في تاريخ اسبانيا. وعلامة ثالثة خارج اسبانيا.

أواخر القرن الخامس عشر، وضع كريسطوف كولومب القيمة المالية لرحلته الاستكشافية لطريق الهند، بعملة المارابيديس وليس بعملة الريال (كتاب الفرنسي هنري فينيو، جزءان، 1911). ذلك أن مكتشف أمريكا وضع للمشروع دراسة مالية كانت المارابيديس (=المرابطي) هي العملة المذكورة عند كريستوف كولومبوس.

وفي أواخر القرن السادس عشر، قدم ثيربانتيس المقدار المالي المكلف بجمعه بعملة المارابيديس، وارتبط اسم هذه العملة (=المرابطي) باعتقال ثيربانتيس.

وفي نفس التوقيت (نهاية القرن 16)، استعمل شيكسبير عبارة شبيهة بالقيمة الزهيدة لشخصين، بكونهما لا يساويان اثني مارابيديس في نص انجليزي.

عندما نتحدث عن عملة بلد ما في وضعية امبراطورية، مثل اسبانيا في قرنها الذهبي، فذلك يعني رواج عملتها المتداولة من عهد كريستوف كولومبوس الى عهد ثيربانتيس في كل أنحاء الإمبراطورية من اسبانيا نفسها إلى أقاليم الإمبراطورية في هولندا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا وجنوب فرنسا ثم في القارة الامريكية حيث تم تأسيس ضرب العملة في المكسيك (1534) لتروج نقود المارابيديس في كل أرجاء أمريكا الاسبانية. يعني كانت عملة المارابيديس (= المرابطي) بمثابة الدولار اليوم. إذا توفرت لدى التاجر الأجنبي في البحار واليابسة فهي العملة الصعبة المقبولة صرفا في كل المحافل المالية. وإذا ما تذكرنا أن مدن الشمال الإيطالي كانت تبدع الأشكال الأولى من النظام البنكي، فعملة المارابيديس كانت عملة الصرف العالمي في البندقية وجنوة وبيزا وفلورنسا. وبالتأكيد أن ماكيافيل وكوبيرنيك ومارتن لوثر، لم يصدفوا فقط الحسن بن الوزان ضيفا استثنائيا عند البابا ليون العاشر، بل كانت عملة “المرابطي” محمولة في جيوبهم للتسوق. حتى إذا انتهى القرن السادس عشر، لم يجد شيكسبير أفضل من الرموز المغربية (عطيل وأمير مراكش والمرابطي) ضمن مسرحياته. أما مارتن لوثر فقد أطلق وصف “المراكشي” على ميغيل سيربيت المصلح البروتستانتي الاسباني لأنه طالب بإلغاء “التثليث” من رموز المسيحية باعتباره بدعة رومانية لا علاقة لها بالمسيح.

أما إذا تذكرنا أن ارنست هامانغواي اشتهر ليس فقط بالحديث عن الحرب الأهلية الاسبانية، بل بأجمل وصف روائي للعبة طوريرو بين روائيي العالم أجمع،

ويعلم المهتمون بالسؤال الذي طرحه المؤرخ الاسباني على نفسه (من هو الاسباني؟) فقد أجاب جان جاك روسو وأمثاله في شهرته، أن ما يميز الاسبان هو الاحتفال الأكبر بينهم، المتجلي في لعبة طوريرو، ومرة أخرى لأن الشيء بالشيء يذكر، فالباحثون في بروز رودريغ دي كامبيون السيد (Le Cid)، باعتباره بطلا قوميا في اسبانيا ومن أساطيرها المؤسسة، فمن العوامل الأسطورية المتحدث عنه بها، هي نجاحه في القضاء على ثيران المصارعة له (أواخر عهد الخلافة الأموية بالأندلس، ق، 11)، من الضربة الأولى.

واللعبة في آخر المطاف تراث أندلسي، يحلو لمنتقديها من بين الإسبان التشديد على كونها من تراث العرب مع إضافة توابل منفرة.

بل يمكننا الانتقال إلى ما يذكره الفرنسيون من باب مصطلحهم الفريد في مجال الحرب ما يسمونه “الهزيمة المجيدة”، وللفرنسيين قدرة على التأويل المقلوب كي يجعلوا من كل الأوضاع في تاريخهم ضمن عبارة الحكمة القائلة il faut faire de l’inévitable, l’utilisable، بحيث يجعلون من قتل بطلهم القومي رولان، قائد فرقة المؤونة في جيش خاله شرلمان، أسطورة الشجاعة والإقدام. بينما يشرحون كيف ائتلف كل من مسلمي الأندلس والباسكيين لقتله في معركة رونسفوRoncevaux، انتقاما من شرلمان الذي انطلت عليه الحيلة فهدم أسوار مدينة بامبلونة. وبالتالي هناك إنجاز مشترك تجاه نفس “العدو”. علما أن سكان بلنسية المسلمون لم يحزنهم وجود أمير مسيحي على رأس إمارتهم وهو السيد نفسه رودريغ دي كامبيون(Le Cid). وهو نفس الشعور الذي جعل الفونصو السابع يضرب عملة المرابطي ضمن منطقة سيادته، بالحروف العربية. وقس ما لم يقل على ما قيل.

كل هذا، جعل من مسلمي الأندلس الذين ارتضوا لأنفسهم الحفاظ على بقائهم في وطنهم اسبانية مقابل التحول الى المسيحية، بل منهم من سافر فرنسا وبنوا مدينة مونبوليي، لأنهم أصبحوا مسيحيين في انتظار السماح لهم العودة الى وطنهم اسبانيا المسيحية، وهو ما لم يحدث قط. مما شككهم في عقيدتهم الجديدة. وروعة النقد الذي وجهه ثيربانتيس عبر التخييل الادبي يتلخص في التساؤل عن سبب تخلي الكنيسة عن أبنائها، بينما كان الكثير من ريّاس أساطيل الترك من المسيحيين؟

***

من بين عائدات قراءة رواية اسبانية حول طنجة، مترجمة إلى العربية، الاطلاع على الإرث المشترك. هكذا تصبح الثقافة (بالمبادرات الشخصية لمثقفي البلدين)، حجرا لبناء الجسور في أفق أن يلتحم البلدان، سنة 2030. فمن المؤلف الى المترجم الى القراء، يمتد تسلسل في خط لا يتوقف. ولأن الثقافة تترسخ في الوجدان، فالبناء يصبح وحدة وعي ومشاعر وتوجهات، يصعب على تقلبات الاقتصاد والسياسة محو معالمه. وبالتالي تشكل الثقافة أرقى ربط قار بين البلدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى