وجهة نظر

إيران، بين التفاوض والاستعداد للحرب..-د. محمد أكديد

  لم تكد المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية تنطلق حتى شهرت مرة أخرى حراب التخوين والتنمر من طرف أتباع وجماعات الإسلام السياسي والسلفية التكفيرية في البلاد العربية من خلال الترويج لافتراءات واهية من أبرزها تداولا اتهام الجمهورية الإسلامية بالتخلي عن حلفاءها داخل محور الممانعة وتسليمهم في كواليس المفاوضات مع الأمريكي مقابل رفع الحصار وجلب الاستثمار، متناسين بأنه وفي نفس الوقت الذي كان فيه الأمريكي يجتهد عبر وسطاء عرب من أجل الجلوس مع إيران على نفس الطاولة كان فيه حلفاء إيران باليمن يقصفون السفن والبوارج وحاملات الطائرات الأمريكية بالبحر الأحمر قبل أن تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية مرغمة من المواجهة العسكرية مع الحوثي بعد أن كبدها خسائر فادحة، كما ولازالت صواريخهم الباليستية والفرط صوتية ذات التكنولوجيا الإيرانية تدك عمق الكيان الصهيوني في تحد واستبسال قل نظيرهما في التاريخ الحديث، وبأن ما قدمته الجمهورية الإسلامية لفصائل ودول الممانعة في المنطقة من دعم سياسي وعسكري واستخباراتي ومادي وإعلامي لم تقدمه أيا من الدول التي يحاولون تلميع صورتها رغم تورط بعضها في التنسيق من العدو ضد محور الممانعة، وتخاذل البعض الآخر في نصرة غزة، حيث لم تتجاوز مبادرات هذه الدول التعاطف والتنديد وبعث المساعدات الغذائية على مستوى الخطاب والفعل الرسمي، والسماح بتنظيم المظاهرات والمسيرات الشعبية وإصدار البيانات الرنانة على مستوى الهيآت المدنية…

ربما لا يعلم هؤلاء بأن نصرة قضايا الشعوب المستضعفة وحركات المقاومة الشريفة بالمنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية تعد ضمن المبادئ الأساسية التي التزمت بها قيادة الثورة منذ قيام الجمهورية الإسلامية ولم تحد عنها أبدا رغم الحصار الخانق وكم التحريض الذي تعرضت له خصوصا من الدول العربية التي دعمت حرب صدام ضدها لمدة عشر سنوات، فضلا عن التهديدات الصهيونية والأمريكية المتواصلة باستهداف منشآتها النووية والاستراتيجية، وكذا عمليات الاغتيال التي تعرض لها عدد من أبرز قادتها العسكريين وعلماءها الأفذاذ خصوصا المرتبطين منهم بالبرنامج النووي و البرنامج الصاروخي..

كما وقد غاب عن هؤلاء بأن القبول بالمفاوضات التي دعا إليها الأمريكي واستطاع الإيراني أن يفرض شروطا للقبول بها، لا يعني الاستسلام لإرادة أمريكا التي لم تعد محل ثقة بعد أن مزق ترامب الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه سنة 2015، حيث رفض الإيرانيون بقوة المطالب التي حاول الأمريكيون فرضها منذ البداية والتي خرج منها إلى العلن تصفير تخصيب اليورانيوم وطرح مناقشة البرنامج الصاروخي الذي يعده البعض أكثر خطورة من البرنامج النووي نفسه بعد أن باتت الصواريخ الباليستية والفرط صوتية تتحدى كل الدفاعات الجوية للكيان المحتل بما فيها منظومات تاد الأمريكية لتصل إلى أهدافها في العمق الإسرائيلي، حيث استطاع الحوثيون مؤخرا تعطيل الملاحة الجوية بعد قصف مطار بن غوريون مما كلف الكيان خسائر بملايين الدولارات خلال فترة قصيرة..

من جانب آخر، فإن الخبراء والمهتمين بالسياسة والدبلوماسية يعرفون بأن المفاوضات ماهي إلا شكل آخر من أشكال الحرب، وقد يخسر المفاوض ما ربحه في أرض المعركة إذا لم يكن كيسا ولديه رؤية واضحة وإرادة قوية في التمسك بمبادئه ومطالبه كما وقع للسادات في اتفاق كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني سنة 1978 بعد أن خرج الجيش المصري منتصرا من حرب 1973 مما تسبب في إخراج مصر من معادلة الردع بعد أن كانت تحمل لواء المواجهة مع الكيان الصهيوني قبل أن تتوارى إلى الخلف.
ولعل التهديد بوقف المفاوضات والعودة إلى نقطة الصفر بالموازاة مع الإغراءات و الضغوط التي تمارسها إدارة ترامب بشكل مباشر أو عبر وسطاء لإرغام المفاوض الإيراني على القبول بشرط تصفير تخصيب اليورانيوم ما هي إلا أمثلة على استمرار هذه الحرب الباردة إن جاز تسميتها كذلك بين النظام الإيراني والولايات المتحدة الأمريكية التي لم تأل جهدا في محاولة إسقاط هذا النظام من خلال زعزعة استقرار الداخل عبر جيش من العملاء والمرتهنين لأجندات الخارج ممن لا يفوتون أي فرصة مهما كانت تافهة لإثارة الرأي العام وإشعال الشارع الإيراني مدعومين بالإعلام المضلل الغربي والعربي، خاصة بعد وقوف الأمريكي على صلابة المفاوض الإيراني الذي عاد بمهندس المفاوضات السابقة عباس عراقتشي مدعوما بمواقف التيار المحافظ الذي يراهن على استمرار المشروع النووي بنفس الوهج بعد أن تبين بالملموس بأن المجتمع الدولي المعاصر لا يؤمن بقوة الحق بقدر ما يؤمن بحق القوة الذي تفرضه موازين القوى. حيث مافتئ المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية وفي كل خطاباته التي تواكب سيرورة المفاوضات مع الأمريكي يلح على استحالة توقيف التخصيب إرضاء للأمريكي، خاصة في ظل فقدان الثقة بين الطرفين، خاصة بعد أن تبين بأن الأمريكي يفضل التفاوض تحت العصا من خلال اتهام الجمهورية الإسلامية بدعم الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة، وكذا التهديد بضرب منشآتها النووية مما يجعل هذه المفاوضات شبه مستحيلة، حيث تعثرت لأكثر من مرة بعد تمسك المفاوض الإيراني بشروطه ودفاعه المستميت عن استمرارية مشروعه النووي السلمي مطمئنا العالم بأنهم لن يصنعوا القنبلة النووية رغم اكتمال دورة الوقود النووي حسب ما تسرب من تصريحات وتناقلته عدد من المنابر الإعلامية.

من جهتها تبذل إسرائيل قصارى جهدها من أجل إفشال هذه المفاوضات التي تعني في حال الخروج باتفاق يرضي الطرفين، الأمريكي والإيراني، صرف إدارة ترامب النظر عن دخول أمريكا في أي حرب محتملة للكيان مع الجمهورية الإسلامية. حيث لم يكف رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو عن تحريض الإدارة الأمريكية ضد إيران وحثها على توجيه ضربة مشتركة للمواقع الاستراتيجية والعسكرية داخل الجمهورية، مما دفع المسؤولين الإيرانيين أيضا، وفي مختلف المواقع، إلى الخروج بتصريحات قوية أبدوا من خلالها استعداد بلدهم لهذه المواجهة الحتمية، مع الكشف مرة أخرى عن مدن صاروخية تحت الأرض وأسلحة نوعية وصواريخ باليستية وفرط صوتية جديدة لن تتوانى حسب كلام بعضهم عن استهداف القواعد العسكرية للعدو أينما كانت.

ختاما، وفي ظل التحولات المتسارعة التي عرفتها المنطقة بعد معركة طوفان الأقصى، فإن كل السيناريوهات باتت مطروحة على الطاولة، ومنها سيناريو المواجهة العسكرية الذي لم يغب يوما عن المشهد خاصة بعد تغول الكيان في المنطقة بعد سقوط سوريا المقاومة واستعداد النظام الجديد للتطبيع على غرار أغلب الأنظمة العربية التي لم يعد بعضها يكتفي بتفعيل العلاقات الرسمية مع الكيان المنبوذ، بل تجاوز الأمر للأسف إلى اختراق المشهد الثقافي والأكاديمي والرياضي والنسيج الجمعوي لدول التطبيع تحت سمع وبصر المسؤولين، مما بات يستفز مشاعر شعوب هذه الدول التي عاينت مجازر هذا الكيان الهمجي ضد الفلسطينيين خلال حرب الإبادة التي لم تتوقف منذ حوالي سنتين سقط خلالها عشرات الآلاف من الضحايا أغلبهم من المدنيين، مما يتحمل مسؤوليته أيضا المنتظم الدولي العاجز أمام تسلط الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم هذا الكيان عسكريا وتحميه سياسيا وتغطي على جرائمه الشنيعة وتجاوزاته الخطيرة التي باتت تهدد في الواقع استقرار كل المنطقة.

باحث في علم الاجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى