الناقدة العراقية وسام علي الخالدي تقرأ قصيدة “لو كنت هنا” للشاعر حسن نجمي

تـــقـــديـــم
قبل ايام، نشرت “تنوير” القصيدة الجميلة التي أحيى بها الشاعر حسن نجمي ذكرى رحيل صديقه وأخيه الشاعر محمود درويش، والتي يوحي عنوانها بالرغبة في حلول الحضور محل الغياب: “لو كنت هنا”. واليوم، تسلمنا من الناقدة الأدبية العراقية الدكتورة وسام علي الخالدي قراءة متخصصة لنفس القصيدة كنا التمسنا منها إعدادها من أجل النشر.
وإذ تقدم ‘تنوير” على تعميم هذه القراءة، تتقدم بأزكى عبارات الشكر والتقدير لمنارة النقد الأدبي المشعة من قلب العراق العريق.
وقبل الشروع في قراءة ما كتبت الدكتورة وسام بوحي من قصيدة الشاعر حسن نجمي، أقترح أن أسوق هنا الارتسامات التي بدرت منه تلقائيا حالما انتهى من قراءة ما كتبته الأستاذة وسام علي الخالدي:
“قراءة فاتنة حقا. يسعدني كثيرا أن أعثر في هذا العالم على قارئة كبيرة تدرك تماما جوهر ورهان قصيدة كتبتُها. تابعتُ سطرا بسطر هذه القراءة بسرور وكأنني لستُ أنا من كتَبَ هذه القصيدة، إذ أعدتُ اكتشافها كما لو كنت أقرؤها لأول مرة”.
“قصيدة “لو كنت هنا” للشاعر حسن نجمي تنسج من الغياب حضورًا، ومن الفقد ذاكرةً نابضة بالصور والدلالات. المخاطَب الغائب هو بؤرة النص، يتكرر مع شرطية “لو كنت هنا” ليخلق فجوة مؤلمة بين الممكن والمستحيل، وبين ما كان يمكن أن يقال وما حدث بالفعل. من خلال هذا الخطاب، يتحوّل الغياب إلى مساحة لقول ما لا يُقال في الحاضر، وكأن الشاعر يفتح نافذة على ضمير جماعي يمثل الحرية والمقاومة والشاهد على المأساة.
وكان التناص مع الأسطورة الإغريقية عبر استحضار “أوليس” و”بنيلوب” ليس زخرفة ثقافية، بل إعادة صياغة للأسطورة في سياق غ زة الجريحة. “أوليس” هنا ضائع في دخان الحرب، عاجز عن العودة، و”بنيلوب” تحوك الأكفان بدل نسيج الانتظار، في قلبٍ مأساوي لرمزية الصبر والرجاء. وهذه الإزاحة الدلالية تمنح النص بعدًا مأساويًا مضاعفًا، إذ تربط بين الحكاية القديمة وواقع الإبادة الحديثة.
وجاءت الصور الشعرية مفعمة بالقوة والمفارقة، من “القيامة تمشي حافية في أزقة غ زة” التي تحيل إلى حضور الموت الكاسح، إلى “أحفاد الهنود الحمر” الذين يسقطون ظلال الطائرات بالحجارة، في تشبيه يربط بين ذاكرة الشعوب المقهورة وتاريخ الإبادة المستمرة. وفي قلب هذا الخراب، يزرع الأطفال “أقواس قزح صغيرة” في ركام الأنقاض، كإصرار على الحياة أمام الموت.
ونبع الإيقاع في النص من تكرار العبارات وبنية الجمل المكثفة التي حملت توترًا شعوريًا متصاعدًا، فيما تتدفق الموسيقى الداخلية من تكرار الأسماء والأفعال والصور التي تطرق وجدان القارئ طرقًا متواصلاً. ففي خلفية النص، يحضر الشعور الجمعي بالعجز والذنب، كما في قوله: “ونحن، على خجل، نحاول أن نفعل شيئًا”، وهو اعتراف نادر يربط القارئ مباشرة بالمسؤولية الأخلاقية.
وينتهي النص بنداء خافت لليد الغائبة التي يمكن أن تعيد “إيقاع القصيدة”، في إحالة إلى أن الشعر وحده، بما يحمله من طاقة على ترميم المعنى، قادر على مداواة الجرح الإنساني. وهكذا، تتحول القصيدة إلى مرثية كونية لغزة، تمزج بين الحاضر والأسطورة، وبين الواقع والذاكرة، لتكتب نفسها كشهادة جمالية وإنسانية في وجه النسيان والمحو.
وأخير قصيدة “لو كنت هنا” للشاعر حسن نجمي ليست نصا يرثي غيابًا، بل هي نهر من الحنين والحزن يفيض على ضفاف غ زة الجريحة. ففي كل سطر فيها يبدو كأنه يتلمس يدًا غابت، أو يحاور ظلًّا لم يعد، في محاولة لاستحضار الصوت الذي يعرف كيف يمنح للكلمات جناحين وللألم معنى. اذن الغياب هنا ليس فراغًا، بل حضورا كثيفا يطل من بين الحروف، وكأن المخاطَب الغائب هو ضمير العالم الذي تأخر عن المجيء.”