افتتاحية
بين حرية التعبير وقدسية المعتقد: رسالة النقيب الجامعي إلى الرميد… من يحرّض مَن؟
منذ 4 ساعات
145 3 دقائق

عزيز الحنبلي
تُعيد الرسالة المفتوحة التي وجّهها النقيب عبد الرحيم الجامعي إلى وزير العدل الأسبق الأستاذ مصطفى الرميد إيقادَ نقاشٍ قديمٍ متجدّد حول تخوم حرية التعبير وحدود حماية المقدسات، وحول موقع الفاعل السياسي والحقوقي حين يتناول قضايا رأي عامّ ملتهبة. فبين قراءةٍ ترى في تدوينة الرميد تحريضًا يزكّي “قضاء الشارع”، وأخرى تعتبرها دعوةً مشروعة إلى تطبيق القانون، يجد الرأي العام نفسه أمام اختبار دقيق: كيف نحتكم للمؤسسات دون أن نؤجّج العواطف، وكيف نحمي الثوابت دون أن نُقصي حقّ الاختلاف؟
ينطلق النقيب الجامعي من نقدٍ حادٍّ لِما اعتبره “وعيدًا” و”تحريضًا” تضمّنته تدوينة للرميد عقب تصريحات منسوبة للناشطة ابتسام لشكر. في تصوّر الجامعي، تجاوزَ الرميد حدَّ إبداء الموقف إلى ارتداء “عمامة المفتي” و”ثوب القاضي”، محدِّدًا التهم ومُعدِّدًا مواد القانون، بما قد يحرّك “قضاة الشارع والحانات والمناسبات” ويُشعل الكراهية ضدّ امرأة بعينها. ويذكّر الجامعي بأنَّ استقلال القضاء وعلانية المساطر يقتضيان ترك القضية تسير في مجراها المؤسّسي، بعيدًا عن منصّات التحشيد، وأنّ دور المحامي—ومن باب أولى وزير العدل الأسبق—ليس إصدار التعليمات ولا قيادة محاكماتٍ عبر الفيسبوك، بل خوض المواجهة داخل قاعة المحكمة وفق شروط المحاكمة العادلة إنْ رأى نفسه طرفًا متضرّرًا.
من جانبه، يرفض الرميد توصيف “التحريض”، ويرى أن ما صدر عنه “دعوة إلى تطبيق القانون” لا تحريض على فعلٍ غير مشروع. ويُسند موقفه بأربع حججٍ رئيسية:
-
التحريض، لغةً وقانونًا، لا يتحقّق إلا مقترنًا بفعل جرميّ؛ أمّا الدعوة إلى تحريك المتابعة فهي تمسّكٌ بمقتضيات قانونية.
-
التحريض يلازمه عادةً وعدٌ أو هبةٌ أو إساءة استعمال سلطة، وهو ما لا يتوفّر في الحالة المطروحة.
-
الدعوة إلى المسطرة القضائية تحُول—برأيه—دون انزلاق الجماهير إلى عدالة انتقامية، إذ تعيد النزاع إلى أحضان الدولة وقضائها.
-
التطبيع مع الإساءة للمقدسات يهدّد السلم الأهلي، والإساءةُ—كما يفهمها—تخرج من نطاق حرية التعبير إلى دائرة الاعتداء على الثوابت.
ويتقوّى بناءُ دفاعه باستحضار اجتهاداتٍ دولية، منها قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية E.S. ضد النمسا (2018) التي قرّرت أن حرية التعبير ليست حقًا مطلقًا، وبالاستناد إلى الدستور المغربي الذي يقرّ ثوابت دينية جامعة، وإلى مقتضيات الفصل 267.5 من القانون الجنائي المتعلق بحماية هذه الثوابت.
العقدة ليست في اختلافٍ أخلاقي حول عبارةٍ جارحة فحسب، بل في “تعيين الأدوار” داخل المجال العام. فحين يتكلم وزير عدلٍ أسبق ومحامٍ بارز، تتجاوز كلماتهما حدَّ الرأي العابر إلى أثرٍ مؤسّساتي ورمزي. لذلك تبدو دعوة الجامعي إلى “خفض منسوب التأثير الخارجي على القضاء” مفهومة بقدر ما تبدو حُجّة الرميد في “ردّ الأمر للقانون” مشروعة. الإشكال إذن في الشعرة الرفيعة بين التأثير الممنوع والنقاش المباح: متى يصبح توصيف الفعل “إساءةً موجبةً للمتابعة” تحريضًا، ومتى يكون “تنبيهًا قانونيًا”؟ ومتى يتحوّل الاعتراض الأخلاقي إلى وقودٍ لـ”عدالة الرعاع”، ومتى يُسعف في صون السلم الديني؟
قانونًا، يميل كثير من الفقه إلى ربط التحريض بعناصر مادية ومعنوية محدّدة؛ غير أنّ الواقع الرقمي يربك هذا التصنيف: منشورٌ واحد بصياغةٍ قاطعة قد يستنهض جموعًا ويصنع ضغطًا على مسار الملف. هنا تكمن وجاهةُ تحذير الجامعي من “تأثير المنصّات”، كما تكمن وجاهةُ دفاع الرميد عن حقه في التعبير عن موقفٍ قيميٍّ وقانوني—شرط ألّا ينقلب إلى توجيهٍ لِمآلات الدعوى أو وصايةٍ على القضاء.
النقاش اليوم يحتاج الى
-
تحكيم المؤسّسات: لا مناص من ترك المسطرة—إن وُجدت—تسير بهدوء، مع صون قرينة البراءة والحق في الدفاع.
-
ضبط الخطاب العام: استعمال لغةٍ دقيقة لا تُصدر “أحكامًا” ولا تحشد جمهورًا، ولا تُسقِط الأوصاف القيمية على أشخاصٍ قبل حكم القضاء.
-
توازن الحقوق: حماية المقدسات مطلبٌ دستوري، كما أن حماية فضاء التعبير شرطٌ لديمومة النقاش المدني. واجب الفاعلين العموميين أن يُبرهنوا أنّ الجمع بينهما ممكن عبر القانون لا بالرغبة في الانتقام.
-
مسؤولية المكانة: حين يتكلم رموزُ المهنة والسياسة، يتضاعف أثر كلامهم. ومن ثمّ، يتحمّلون مسؤوليةً أخلاقيةً إضافية في انتقاء الألفاظ وتقدير المآلات.