حين نتأمل في مسيرة الإنسان، ندرك أن حياته لا تُقاس بطولها الزمني أو بعدد سنواتها، وإنما تُقاس بنبض قلبه الحيّ، ذلك القلب الذي يرمز للحياة الروحية والوعي الأخلاقي. فما دام القلب يخفق، يظل الإنسان قادرًا على أن يراجع نفسه، ويصحح مساره، ويعيد النظر في خياراته. وهنا تتجلى رحمة الله في إتاحة باب التوبة مفتوحًا لكل من أراد العودة إليه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ (الزمر: 53). هذه الآية تختزل المعنى العميق: ما دمت حيًّا فأنت في فسحة من الزمن، وما دمت في فسحة فأنت قادر على التغيير، ومادمت قادرًا فأنت محاسب على هذا الاختيار.
ولقد حمل الإنسان أمانة لم تستطع السماوات والأرض والجبال أن تحملنها، وهي أمانة الحرية والاختيار. هذا الاختيار هو الذي يرفع الإنسان إلى مقام التكريم إذا أحسن استثماره، أو يجره إلى درك الإهانة إذا فرّط فيه.
ومن منظور فلسفي، يمكن القول إن الإنسان ليس مخلوقًا مسيّرًا بالكامل ولا مطلق الحرية بلا ضوابط، بل هو كائن في منطقة وسطى: مُخيَّر في مسار، ومُسيَّر في آخر. وهنا تكمن عظمة وجوده: أن يوازن بين دوافعه المادية والروحية، وأن يختار الطريق الذي ينسجم مع قيم الحق والخير والجمال.
أما في البعد التربوي، فتعد التربية في جوهرها فنّ إيقاظ الضمير، وتنمية القدرة على الاختيار الصحيح. فالانسان حين يُدرك أن كل فعل يصدر عنه هو جزء من امتحان أوسع، يتعلم أن ينظر بعين المسؤولية إلى كل ما يقوم به، من كلمة ينطقها أو إلى قرار يتخذه.
وهذا يفسر لماذا اعتبر المربون الكبار أن بناء “الإنسان الواعي” أسمى من بناء “الإنسان العالم”. فالعلم من دون ضمير قد يتحول إلى أداة تدمير، أما الوعي بالمسؤولية فهو الذي يحوّل العلم إلى قوة بناء وإصلاح.
وفي البعد الاجتماعي، نذكر أن المجتمع لا يقوم فقط على المصالح المتبادلة، وإنما يقوم على الثقة التي هي ثمرة الإحساس بالأمانة. فالأمانة تشمل أمانة الكلمة، وأمانة العهد، وأمانة العلاقة الإنسانية. فإذا ضعف الإيمان بهذه القيم، تحولت المجتمعات إلى ساحات صراع، تغيب فيها روح التضامن، ويعمّها الشك وانعدام الطمأنينة.
من هنا، يمكن القول إن تفعيل الوعي بالأمانة والاختيار ينعكس مباشرة على قوة المجتمع وتماسكه. فالإنسان الذي يخون الأمانة مع نفسه، يخونها مع الآخرين، والعكس صحيح.
ومن زاوية فلسفية، يطرح سؤال جوهري: لماذا أُعطي الإنسان حرية الاختيار أصلاً؟ الجواب يكمن في أن الحرية هي الشرط الضروري لامتحان حقيقي. فلو كان الإنسان مسيّرًا بالكامل، لما كان للحساب معنى. ولو كان حرًّا مطلقًا بلا قيود، لانفلت من أي نظام أو عدالة.
هنا تظهر الحكمة في قوله تعالى: ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك: 2).
فالحرية هي مسؤولية ثقيلة، يرافقها عقل يوجّهها، وشرعٌ يضبطها، ويوم حساب يختمها. وما إن ينقطع النفس الأخير حتى يُسدل الستار على مسرح الاختيار، وتبدأ مرحلة الجزاء: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 7–8)
وأخيرا فإن حياة الإنسان برمّتها هي في الحقيقة رحلة بين لحظتين: لحظة القلب النابض الذي يمنحك فرصة التغيير، ولحظة السكون الأخير حيث لا عودة ولا اختيار. وبين اللحظتين تُكتب قصتك الحقيقية: هل كنت وفيًّا للأمانة التي أودعها الله فيك؟ هل استثمرت العقل الذي ميّزك به عن سائر المخلوقات؟ هل تعاملت مع الناس بالعدل والرحمة؟
ذلك هو السؤال الذي يستحق أن يظل حاضرًا في وعينا التربوي والاجتماعي والفلسفي. فالحياة مهما طالت، ستنتهي، وما يبقى هو أثر الاختيار الذي صنعناه بإرادتنا الحرة.