حميد قاسمي-تنوير
لم تعد كرة القدم اليوم مجرد رياضة، بل غدت لغة كونية وأداة دبلوماسية ناعمة، وأحياناً سلاحاً يوازي في تأثيره ما لا تبلغه المدافع والصواريخ. إنها ساحة رمزية لتقاطع الأمم وصراع الكبرياء الوطني، وميزان صامت لتقدير قوة الدول الناعمة. في هذا السياق يبرز المغرب، ذلك البلد الذي استطاع أن يفرض حضوره الكروي متقدماً على قوى كبرى في الاقتصاد والتكنولوجيا والبحث العلمي، محتلاً المرتبة الثانية عشرة عالمياً من أصل مئتين وعشر دول.
هذا المعطى ليس عادياً، بل يستحق وقفة عميقة. فالدول التي تسبق المغرب أو تنافسه كروياً هي ذاتها القوى التي تسبقنا في الاقتصاد والصناعة والتعليم والصحة، بل وحتى في حقوق الإنسان؛ إسبانيا، فرنسا، ألمانيا، إنجلترا، إيطاليا، البرازيل، الأرجنتين… كلها أمم تترجم تفوقها الحضاري في ملاعب كرة القدم. أما المغرب، فقد قلب المعادلة: يحتل مكانة متقدمة كروياً بينما يتأخر في مؤشرات التنمية الأخرى. ففي مؤشر التنمية البشرية يقبع في المرتبة 120 من أصل 190، وفي الحرية الاقتصادية 86 من أصل 184، أما في حرية الصحافة فالترتيب 120 من أصل 180. والمفارقة صارخة؛ إذ بينما لا يزيد الفارق بين المغرب وإسبانيا كروياً عن عشر مراتب، فإنه تنموياً يتجاوز التسعين، وفي حرية الصحافة يقارب المائة، وفي الاقتصاد يتخطى الثلاثين.
هنا ينهض السؤال الكبير: ماذا تعني كرة القدم للمغربي حقاً؟ هل هي انعكاس طبيعي لمسار حضاري صاعد كما هو الحال لدى الأمم المتقدمة، أم أنها أفيون جماعي ناعم يسكّن الأوجاع ويغطي على التشققات العميقة في الجدار الاجتماعي؟
المغربي البسيط، ذاك الذي ينهكه الكراء، ويستنزفه ثمن الماء والكهرباء، ويطارده غلاء القفة والدواء، ويتعثر كل يوم في دهاليز الإدارة والمستشفى والمدرسة؛ لا يرى في انتصار كروي مجرد فوز رياضي، بل يستعيد فيه كرامة مسلوبة، ويشعر بأنه حقق نصراً شخصياً في معركة الحياة. لحظة الهدف تتحول عنده إلى استراحة قصيرة من صراع طويل مع قسوة الواقع. إنها لحظة يُخيّل له فيها أن المغرب دخل نادي الكبار، فيغض الطرف عن أسئلة التنمية والحرية والعدالة الاجتماعية.
هنا تكمن خطورة السحر الكروي: إنه ليس مجرد فرحة عابرة، بل حالة عاطفية جماعية قد تُستثمر سياسياً لتخفيف ضغط الأسئلة المؤجلة. فبينما تنشغل شعوب أخرى بمساءلة حكوماتها حول العدالة الضريبية أو توزيع الثروات أو إصلاح الصحة والتعليم، نجد المغربي يكتفي بأن يشعر بالانتماء إلى بلد قادر على هزم إسبانيا أو البرتغال، ولو ظل عاجزاً عن إصلاح مستشفى أو مدرسة.
إن كرة القدم قوة ناعمة لا شك، لكنها تظل محدودة مهما بلغت. فلا بطولة كأس العالم قادرة أن تعالج ضعف الاقتصاد، ولا تصفيات المونديال كفيلة بأن تصلح التعليم أو تفتح باب الحرية. التحدي الحقيقي أن يتحول هذا التألق الرياضي إلى حافز لبناء مشروع وطني أوسع: اقتصاد منتج، تعليم حقيقي وعادل لا فرق بين ابن غني ولا ابن فقير، صحة تحفظ الكرامة، إعلام حر، وصحافة مسؤولة. بل إن الرهان الأكبر أن يتأهل المغرب في ميدان الوعي، فيرتقي الفرد إلى مستوى يطالب فيه بحقه في التنمية كما يفرح بحقه في الانتصار.
هنيئاً للمنتخب المغربي بتأهله المستحق إلى كأس العالم 2026، لكن الأجمل أن نرى في قادم السنوات منتخباً آخر ينهض في ميادين التنمية والحرية والعدالة الاجتماعية. فذلك هو التأهل الحقيقي، وذلك هو النصر الذي لا تذروه الرياح.