وجهة نظر

البذورُ الكامنة بينَ الطبعِ والتطبّع بقلم: هشام فرجي

 يقول ابن خلدون في مقدمته إنَّ «النَّاس على دين ملوكهم»، في إشارة إلى أثر البيئة والسلطة في تشكيل النفوس والسلوك. لكنه يعود في مواضع أخرى ليؤكّد أنّ العصبيةَ والجبلةَ الأصلية تبقى كامنة في الأمم حتى وإن تغيّرت أحوالها، فتظهر عند أول استفزاز أو محنة. هذه الفكرة القديمة يجد لها علم النفس الحديث أصداءً واضحة؛ ففرويد مثلاً تحدّث عن «اللاشعور» باعتباره مخزنًا للرغبات والتجارب المبكرة التي قد تظلّ خامدةً سنوات ثم تنبثق عند تهيؤ الظروف.

ففي كلّ كائنٍ حيٍّ سرٌّ يُقيمُ فيه كما تُقيمُ النواةُ في قلب الثمرة. قد يُنقلُ إلى أرضٍ أخرى، ويُسقى بماءٍ أطيب، ويُظلَّلُ بسماءٍ أنقى، لكنّه يبقى يحملُ في داخلهِ صورةَ الأصل. وهنا يثورُ السؤالُ الإنسانيُّ القديم: هل يمكنُ أن يتبدّلَ الجوهرُ لمجرّد تبدّلِ البيئة؟

يبدو الجوابُ قريبًا  وواضحا في الحيوان والنبات،: فالفرسُ غير الأصيلة لا تُصبحُ أصيلةً إن سكنت إسطبلَ الأصائل، كما أنّ البذرةَ المرة لا تُثمرُ حلاوةً إن غُرست في أخصبِ الترب. هذه صورةٌ بيولوجيةٌ للثبات الوراثي.

لكنَّ الإنسانَ قصةٌ أخرى؛ هو وحدهُ الذي لا تختصرهُ جيناتُهُ ولا تحدّهُ سلالته. في داخلهِ استعداداتٌ متقابلة: بذورُ خيرٍ وبذورُ شرٍّ، طباعٌ أصيلةٌ ونزعاتٌ مكتسبة. حيث قد تُنمّي البيئةُ جانبًا وتُضعف آخر، وقد تروّض التربيةُ نزعةً جامحة وتُنمّي أخرى فاضلة. غير أنّ البذورَ الأولى لا تفنى؛ إنّها تنامُ في الأعماق، تنتظرُ لحظةَ استدعاء، أو بيئةً شبيهةً، أو حنينًا خفيًّا لتستيقظ. وهنا يتجلّى ما يسميه علماء النفس “الأنماط الكامنة” وما سمّاه الحكماءُ “غلبة الطبع على التطبّع”.

كما أن التحليلُ الاجتماعيُّ لهذه الظاهرة يكشفُ لنا أنّ الإنسان الذي نشأ في بيئة فقرٍ أو عنفٍ أو تهميشٍ، حتى إذا انتقل إلى بيئة رخاءٍ وعدالةٍ، قد يحملُ في سلوكه أثر تلك البيئة الأولى: في خوفه، في أنماط تعامله، في انحيازاته. وإذا عادَ إلى الظروف القديمة أو إلى محفّزات تشبهها، ينبعثُ ما كان قد كبته. لذلك نرى في الأشخاص خاصة وفي المجتمعات عامة ظواهرَ “ارتداد” السلوك أو “عودة” النزعات القديمة رغم محاولات الإصلاح.

ومع ذلك، يظلّ الإنسانُ – بخلاف الحيوان – صاحبَ قدرةٍ على الاختيار والكبح والتجاوز. يمكنُهُ أن يُهذّب تلك البذور وأن يزرعَ في أرض نفسهِ ما يريدُ أن يحصده. غير أنّ ذلك يحتاجُ وعيًا مستمرًا وتربيةً دائمة، فلا يكفي تغيير المكان أو الثروة. فالغنى وحده لا يجعلُ الفقيرَ السابق كريمًا، كما أنّ الفقرَ لا يجعلُ الغنيَّ السابق بخيلًا. إنّما هي معركةُ وعيٍ وتربيةٍ وسلوكٍ متكرّر.

وأخيرا يمكن القول أن التجربة الإنسانية قد كشفت لنا على مر العصور أنّ الطبيعةَ الأولى ميلٌ وحنين أكثر من كونها قدرًا مطلقًا، وأنّ البيئةَ مؤثّرةٌ لكنها ليستُ وحدها الحَكَم، وأنّ الاختيارَ هو الذي يرقى بالإنسان مرتبة العاقل كبشر أو يهوى به إلى مرتبة غير العاقل… فبين الطبع والتطبّع، وبين البذور القديمة والتربة الجديدة، تنعقدُ المعركةُ الكبرى في قلب المجتمع وقلب الفرد معًا: أيُّ وجهٍ للإنسانِ نريد أن ينمو فينا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى