ثقافة و فن

الثقافة بين تيارين… هل ما زال للوعي مكان في زمن السرعة؟

د . كريمة الصديقي
نعيش اليوم لحظة ثقافية مربكة، يتداخل فيها القديم بالجديد، ويتصارع فيها العمق مع السطحية، تختبر فيها قدرة الإنسان على التمييز وسط ضجيج المعلومات. وإذا كانت الثقافة في الماضي تُبنى على القراءة والتأمل والمعرفة المتراكمة، فإنها اليوم أصبحت مهددة بفعل سطحية المحتوى، وسرعة الاستهلاك، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على تشكيل الذوق العام.
لقد تحولت الثقافة من فعل معرفي إلى منتَج سريع؛ حيث تغلب الترفيه على التفكير، وانتشر “صناع المحتوى” أكثر من صنّاع المعرفة. وبدل أن يُقاس المثقف بقدرته على التحليل والفهم، أصبح يقاس بعدد المتابعين وعدد المشاهدات. هذه التحولات ليست مجرد تفاصيل، بل تشكل خطرا حقيقيا على نوعية الوعي العام.
لكن في مقابل هذا التراجع، تظهر بارقة أمل واضحة: هناك جيل جديد يرفض الانجرار وراء السطحية، ويبحث عن محتوى جاد، ويعود إلى القراءة، ويهتم بالفنون والهوية والتراث. فالوعي – مهما تأخر – يفرض نفسه في النهاية.
غير أن هذا الوعي يحتاج إلى دعم مؤسساتي وثقافي، لا أن يترك للأفراد وحدهم. كما أن دور المدرسة والجامعة يتراجع في تشكيل العقل، في وقت أصبح فيه الطفل والمراهق يتلقّى ثقافته من هاتفه لا من معلمه، ومن المؤثرين بدل العلماء.
القضية الثقافية اليوم ليست مجرد أزمة كتب أو مكتبات، بل هي أزمة ذوق عام، وأزمة أولويات، وأزمة فهم. فحين تصرف الأموال على الترفيه أكثر مما تُصرف على المعرفة، ويختفى بالسطحي بينما يهمش العميق، يصبح السؤال المطروح: ما مستقبل المجتمعات التي تنفصل عن جذورها الفكرية؟
إن الحل لا يكمن في رفض التكنولوجيا أو الهروب من العالم الرقمي، بل في إعادة توجيهه. فالعالم الافتراضي يمكن أن يكون مساحة للمعرفة والإبداع إذا أُحسن استخدامه. كما أن دعم مبادرات القراءة، وتشجيع الإبداع المحلي، وإعادة الاعتبار للمثقف الحقيقي، كلها خطوات ضرورية لإحياء الثقافة.
وفي النهاية، تبقى الثقافة صلة وصل بين الإنسان وذاته، وبين الماضي والمستقبل. وإذا فقدت المجتمعات بوصلتها الثقافية، فقدت كل شيء آخر. لذلك، فإن معركتنا اليوم ليست معركة اقتصادية أو سياسية فقط، بل معركة وعي: هل نريد أن نكون مجرد مستهلكين؟ أم صُناعا لثقافة تليق بتاريخنا ومستقبلنا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى