تشهد برشيد في هذه الأيام مشاهد قاسية تُضاعفها حرارة الصيف اللاسعة: أشخاص في وضعية تشرد وأشخاص في معاناة نفسية يجوبون الشوارع والأزقة طوال النهار، وحين يهبط الليل يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. وفي الشتاء يتكرر المشهد بوجهٍ أشد قسوة، مع بردٍ ينهش الأجساد ولا يلتفت إليهم أحد. هذه ليست صورًا عابرة، بل علامة على خللٍ بنيوي في مسار الرعاية الاجتماعية والصحية، حين تنقطع الحلقات بين التشخيص والعلاج والإيواء والمتابعة، فيعود الناس إلى نفس النقطة: الشارع.
في هذا السياق، يَرفع فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ببرشيد صوتَه مطالبًا السلطات المعنية—عمالة الإقليم، المجلس الجماعي، المصالح الصحية والحماية الاجتماعية، الأمن الوطني، التعاون الوطني، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية—بالتدخل بكل الآليات المتاحة للحد من اتساع الظاهرة التي تتفاقم يومًا بعد يوم. فالتشرد هنا مأساة إنسانية بامتياز، تتناسل في غياب بنيات استقبال ورعاية قادرة على إنقاذ هذه الفئات وإعادة تأهيلها نفسيًا واجتماعيًا، بدل تركها نهبًا للتهميش وما يجرّه من مخاطر الاستغلال والاعتداء والوصم، في وضعٍ بات يؤرق سكان المدينة ويُقلق أمنهم الصحي والاجتماعي.
المطلوب اليوم لغة تحترم الكرامة وخطة عمل ملموسة. لسنا أمام “مختلين عقليًا” كصفة جارحة، بل أمام مواطنين لهم حقوق كاملة: “أشخاص في وضعية تشرد” و“أشخاص في معاناة نفسية”. والمسؤولية جماعية لا موسمية. يبدأ الإصلاح بفريق تدخل اجتماعي متنقل يعمل على مدار الساعة، يضم إطارًا اجتماعيًا وممرضًا في الصحة النفسية وسائق إسعاف ووسيطًا ميدانيًا، للتقييم والإسعاف الأولي ونقل الحالات الخطِرة وربط القابل منها بأسرته. ويواكبه مأوى ليلي صغير لائق، يضمن الاستحمام واللباس والغذاء، بفصلٍ آمن للنساء والفتيات، ومساطر دخول مرنة تحترم الرضا والسرية.
وعلى المدى المتوسط، لا بدّ من “سلسلة رعاية” واضحة: تشخيص نفسي–اجتماعي، علاج دوائي ونفسي منتظم، مواكبة قانونية لاستخراج الوثائق، دعم أسري موجَّه، وتكوين قصير المدى للولوج إلى مهن بسيطة بالشراكة مع مقاولات محلية. كما تُستَكمَل المنظومة بغرفة عمليات مشتركة داخل العمالة لتجميع البلاغات والتنسيق بين المتدخلين، وخطّ تواصل محلي سريع للتبليغ عن الحالات في الخطر، مع بروتوكولات حماية للعاملين والمتطوعين.
المجتمع المدني والإعلام المحلي والمدرسة والمسجد والجيران، جميعهم شركاء في القطع مع ثقافة السخرية والخوف والإحسان العشوائي الذي يزيد الفوضى. المطلوب روايات إنسانية تحترم الخصوصية، وتوعية عملية: كيف نساعد من دون إهانة؟ ماذا نتجنب؟ وكيف نبلغ بسرعة عن حالة تستدعي التدخل؟
صحيح أن الموارد محدودة، لكن كلفة اللامبالاة أعلى: في الأرواح، وفي الصحة العامة، وفي صورة المدينة. إن برشيد قادرة—إذا توفرت الإرادة—على تحويل هذا الملف من “جُرحٍ مفتوح” إلى فرصة لولادة سياسة اجتماعية حضرية أكثر شجاعة وإنسانية، تُعيد هؤلاء إلى أماكنهم الطبيعية: بين أسرهم، في مقاعد الدراسة، في ورشات العمل، أو على الأقل في سرير آمن يتناولون فيه علاجهم بانتظام. مدينة تُقاس بقدرتها على حماية أضعف ساكنيها؛ وبرشيد تستطيع.