“الموت في طور التغيير” إصدار جديد للكاتبة اللبنانية دومينيك إدة حول مأساة غزة

أحمد رباص – تنوير
في الحقيقة، يعود الفضل في إحاطتي علما بالإصدار الجديد لكتاب دومينيك إدة بعنوان “الموت في طور التغيير” (la mort est en train de changer”، يعود إلى صديقي الشاعر والمثقف حساين بنزبير الذي نشر، كما عادته، تعليقا على الفيسبوك جاء فيه أن”لغَزَّة بلاغتها الخاصة والأنطولوجية. ثم وجْهُ لساننا أمام موت في طور التغيير. أشياء وأشياء تجري أو أنها تحدث ومنذ زمان بين أرض الله، والسلبي والإيجابي، والموت بحضور كافكا… كتابٌ يجعل من الخطاب السياسي حقلا للتفكير الحق والفعال، أيضا. وبلغة فكِّيرة. هكذا، نقتحم فكر السياسية بتأمل رصين. إننا هنا نستجلي وزن الكلمات وسلطة الفكر في شُدْفَة سياسية وتاريخية صرنا فيها جاهلين. كتاب يفتح إمكانيات السؤال والحفر في طيات غزة بكل تعقيداتها السياسية والثيولوجية والإنسانية. ثم تكون الكتابة شاهدة على أثر يحمله رماد التحليل والبحث عن وجوه الهزيمة الإنسانية. فاجعة الكتابة في فاجعة التاريخ”.
الروائية والكاتبة اللبنانية دومينيك إدة الذي نشر في تزامن مع موسم الدخول الثقافي الحالي، يصرخ ضد اختفاء المجتمع الدولي، ويُجري تشريحا لانهيار الفكر في مواجهة مذبحة غزة وهزيمة الإنسانية.
بالاستناد إلى قصة حياتها ولقاءاتها، تُضفي الكاتبة اللبنانية بُعدا حميميا ونفسيا على فهم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
هذا عملٌ لا غنى عنه، مؤثر؛ قصةٌ مُريعة ومؤثرة تُزلزل الفكر وتُساعده على إيجاد طريقه في مشهدٍ مُدمر، بعد أن فقد بيئته.
تقول دومينيك إدة: “كنت أقول لأصدقائي العرب: أنا ضد 7 أكتوبر، وكنت أقول لأصدقائي اليهود: “عندما أرى أن الأمر لا ينجح من جانب أو آخر، أُدرك أن شيئا ما لم يعد يعمل. لأن الحياة لم تعد قادمة. هذا ما كتبت عنه”.
“الموت في طور التغيير”، صرخة ضد الإبادة. في هذا الكتاب ترسم الكاتبة اللبنانية صورةً وحشيةً عن التجاوزات التي تُمزّق العالم. كتاب قصيرٌ، لكنه مُدمّر.
يمكن اعتبار الكتاب صرخة مكتوبة. أمام وجوه الأطفال الجائعين والمبتوري الأطراف، وحاملي الجثث، والسجناء الخارجين من التعذيب، تؤكد دومينيك إده أن “الكتابة محنة تكاد تكون فحشا”. لكن “عدم الكتابة، حين يكون المرء قادرا على إهانة الكراهية، أقل مجدا”. برهنت الكاتبة اللبنانية، الغربية والشرقية على حد سواء، على أنها قادرة على فهم المنطقة، حيث تتذكر سنواتها الأولى في باريس كملحقة صحفية لفلاديمير يانكيليفيتش، هذا الفيلسوف الذي كرس نفسه للدفاع عن إسرائيل التي نظر إليها ك”بلد صغير نجا من الرعب…”
تقول دومينيك إده: “سأحاول الكتابة. وفي الكتابة، سأتخلص من الكلمات التي لم تعد تُجدي نفعا، إلا لتأجيل لحظة اختراع أخرى ربما”. بالاعتماد على سيرتها الذاتية ولقاءاتها، تُضفي الكاتبة اللبنانية بُعدا حميميا ونفسيا على فهم الصراع الذي أفرز عارا يشعر به عدد لا يُحصى من اليهود اليوم إزاء السلوك الهمجي للجيش الإسرائيلي ويُضاهي (العار) ما يشعر به عدد لا يُحصى من العرب، مسلمين ومسيحيين على حد سواء، إزاء الهمجية التي ارتُكبت باسمهم على مدى العقود القليلة الماضية.
في الواقع، لا يوجد اسم يُذكر. إن الاعتقاد بأن المرء مسؤول عن جرائم القتل التي ارتكبها من نُصرّ على تسميتهم “أبناء المجتمع” هو تقديس للمجتمع، وهو ضربةٌ للعالمية. أفضل طريقة لمكافحة هذه الجرائم هي إدانتها، والانفصال عنها. والتخلي عن فكرة الانتماء إلى جماعة ذات صفات جوهرية.
كتبت دومينيك إده في 26 شتنبر 2024، في مقال رأي بعنوان “بنيامين نتنياهو يأسر الوقت”: “كل يوم من التساهل في الحرب هو يوم واحد أكثر من اللازم لبقاء الجميع”. ومن بيروت، حيث تعيش، واصلت الكاتبة اللبنانية، ولا سيما من خلال مقالات الرأي في صحيفة لوموند، دق ناقوس الخطر في بحر من اللامبالاة تجاه المصير المأساوي لغزة، بينما كانت حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على فلسطين على وشك أن تمتد لتشمل جرائم حرب ضد المدنيين في لبنان.
“لماذا كل هذا الظلام؟”. ذلك عنوان إحدى كتاباتها، الصادرة عن دار سوي عام 1999، والتي تميزت بهذا الصوت الفريد، الحر بقدر ما هو جامح، والملتزم بالسعي إلى عالمية لا تقضي على الاختلافات والفروق الدقيقة والتعددية. كان الأمر يتعلق باستحضار فلسطين ولبنان، والعالم العربي والعالم أجمع. بين اليأس والأمل، رغم كل شيء…
قبل أسبوع من تاريخ 15 دجنبر المحدد للتسجيل على جدران معهد العالم العربي في باريس، عندما أعاد وقف إطلاق النار الهش في لبنان فتح المجال الجوي وسمح برحلات جوية إلى فرنسا، حلّت المفاجأة السورية السعيدة، بسقوط أحد أسوإ الأنظمة في المنطقة، نظام الأسد الديكتاتوري، الذي كان لبنان فريسة له أيضا.
في نهاية حوار خصت به أحد المنابر الصحافية، تروي دومينيك إده فرحة اللاجئين السوريين الذين تدعمهم في ورشة نسج ببيروت، لدى سماعها هذا الخبر. لكنها هي نفسها لا تزال حذرة، تطاردها لسنوات طويلة فكرة “التعايش بين الجمال والرعب”.
لهذا الصدد، كتبت تقول: “فرحة الفهم تُبقيك على قيد الحياة. إنها أقوى من فرحة الصواب”. طوال هذه الحوار، تُجسّد دومينيك إدّه هذا الاقتناع الذي لطالما حرّكها، سواءً في التزامها الدائم بتحرير شعوب العالم العربي أو في أعمالها الأدبية، التي تتناوب بين الروايات والمقالات. تقول إنها مسألة سعي دائم “لمدّ جسور التواصل بين القوى المهيمنة”.
وتُقرّ قائلةً: “لقد أساءت أوروبا التصرف للغاية”، مُؤكّدةً برصانة كيف “تخلى الجميع عن فلسطين”. في نهاية روايتها “كمال جن” (دار ألبين ميشيل، 2012)، التي تُصوّر الدكتاتورية السورية كاستعارة للفظائع التي يُمكن لجنسنا البشري أن يُولّدها، تُذكّرنا دومينيك إدّه بأن كلمة “masquerade” (حفلة تنكرية) أصلها عربي. وعندها تُوجّه إحدى شخصياتها قائلةً: “الغرب، أليس هو الحفلة التنكرية، دون وعي بأنه كذلك؟”.
في الوقت الذي اعترفت فيه فرنسا أخيراً بدولة فلسطين، تحلل الكاتبة اللبنانية دومينيك إده آليات الإبادة الجماعية في غزة في قصة مروعة بعنوان “الموت في طور التغيير”. وتقول الكاتبة اللبنانية في كتابها الجديد إن الكتابة عن الدمار المستمر في غزة “امتحانٌ يكاد يكون فاحشا ” . وتضيف أن ” عدم الكتابة، حين يكون من الممكن ترويض الكراهية، أقلّ مجدًا”.
ماذا يمكن فعله لغزة، إن لم نقل، انطلاقا من هشاشتها الأدبية، فماذا يحدث هناك؟ كيف يمكن للمرء أن يجد الكلمات المناسبة لوصف معاناة “تتجاوز حدود الاحتمال”؟ “ما تبقى من قوة يُستغل لتحملها”، تعترف في هذه المحاولة الأخيرة بأن شعورا عاما بالعجز يطاردها في مواجهة إبادة جماعية لا يزال الكثيرون يرفضون وصفها.
مع ذلك، لم يعد حظر تسميتها، تحت طائلة اتهامها بمعاداة السامية، أمرا مفروغا منه اليوم؛ فقد استمر لأشهر بالتأكيد، لكن الواقع الموثق للمجازر يتجاوز الآن الخلافات الدلالية. غزة في طور “المحو الكامل”، كما نددت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) قبل أيام قليلة، بينما في 22 شتنبر الأخير، اعترفت عدة دول غربية، منها فرنسا، أخيرا بدولة فلسطين في الأمم المتحدة.