أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(7):هلوسة اليوم من آثار بئر الأمس
أحمد الخمسي
كان السفر طويلا، متعبا، عندما استرخى وقد هزمه التعب، أصيب بنوم عميق، غير أن دماغه كان شديد الانتفاخ حسب أحاسيسه المؤلمة. دماغ مزدحم بالكوابيس. ترافق الشخير بهلوسة تكاد تكون كهربائية، محتلة حركاته وصوته المخيف.
كانت المناشير تحز أسنانه وما بين أسنانه. كان صرير الأسنان يثير شحنة كهربائية في الجهاز العصبي لرفيقه الذي ينام بجواره. فلم ينفعه التقلب على الجانبين. واتجهت أصابعه توّاً الى رأسه تحك وتحك بعصبية وقرف ظاهرين. حرّك رجليه بعنف فانزاح الغطاء عن جسمه.
لحظة، ظهرَ شبح مخيف وسط الظلمة داخل إطار باب الغرفة التي تنفتح على ضوء شاحب في الخارج. جسمُ كتنين من كائنات أفلام الخوف. إنه “الذيب” الذي وقف متسمّرا صامتا حتى يتبيّن ما سوف يفعله النائمان. انطلق بكاء مخيف اهتز معه ظل زعيم “الزبانية” رغم حرصه على التجمد. قطع أنفاسه حتى يكمل دور الثعلب الخبيث في حق شباب ألقي بهم في جب سرّي ولم يترك لهم سوى دور الفأر في المختبر القمعي. أخيرا تحرك متجها نحو الجسم المجاور ورفس وجه النائم بحذائه بعنف. فين عندك تهرب أ لحمار؟
وسط صوت الألم من شدّة الضربة خرجت كلمات الشاب: حصراتني البولة “الحاج”؟
وانت الحمار لاخور؟ مالك كتغوت؟
حلمت راسي، أ لحاج، هجموا علينا البوليس في الحي الجامعي؟
ثم أجاب “الحاج” بصوت مستفز: وخلاو دار بوك مزيان؟
السجين: هلكوني أ لحاج. شي شريبة د الماء “الحاج”؟
“الحاج”: انعسْ لحمار للي ولدك؟ دابا نهلك جد بوك أ لحمار.
السجين: كنموت بالعطش أ لحاج؟
“الحاج” أجابه بوضع حذاءه على عنقه وضغط، حتى سُمِعَ صوته يكاد يختنق.
“الحاج” يخاطب السجين الأول الذي حكى أن البولة حاصرته ومنعته من النوم: أنت. اجلس، بول على الأرض.
لم يكد السجين يتهيأ للتبول حتى سبقه البول وانتشر في سرواله العسكري. ثم أكمل التبول محتشما.
“أجي أنت للي فيك العطش. فجأ صدى صوت مرعب يشبه هجوم أسد مفترس ملأ الأسماع وخنق الأحاسيس، كان الطاقم المكلف بالتعذيب يمارس مهامه بوحشية في أعماق الليل. يكاد الصوت يختلط بحشرجة الموت. خرج الحاج مسرعا.
في كل مرة، كان الليل مزدوج المصير، من انتهى معه التحقيق والتعذيب يتنظر الليل كي تخف دوريات ال”الحُجّاج” الذين يتلذذ بعضهم بالكلام البذيء في حق السجناء. ومن ينتظر دوره في التعذيب تزيد وساويسه كالمحكوم بالاعدام. كل ليلة يسمع كابوس الصوت المقرف الذي يتخيله صوت المناداة كي تنطلق دورة التعذيب المقرفة.
يكون صمت الليل كسطح البحر هادئا، ثم ينتفض القرش المفترس فجأة لينشر الرعب. كان صوت السجين المصاب بالألم الشديد يوحي في أذهان رفاقه بنهش الموت لجسده المعذب. كان الرعب ظلاًّ مطبقا على ما تتخيله العين وعلى مشاعر القلب ومقفلا كل فجوات العقل المضيئة. يتخيّل المعتقلون الممدّدون أن أطراف المعتقل قيد التعذيب تنفرط وتتفكك أوتارها العصبية. يتحول الجلادون إلى كائنات وحشية بملامح زبانية جهنم.
عندما كان أصهاره يستضيفونه بداية الارتباط العائلي معهم، كان يوصي شريكة حياته أن يهيئوا لهما غرفة قصية، حتى لا يصل إلى أسماعهم في جنح الظلام صوت كوابيسه المترددة أثناء نومه بين الفينة والأخرى. كانوا بداية الأمر يتخيلونه ضحية استحياء مفرط. كان متعلقا بها ولا يحب أن تفارقه شريكة حياته عندما يقضون بعض الأيام ضيوفا في منزل عائلتها.
ليلة زيارة هذه المرة، سمع الأصهار صوتا مخيفا. لم يفهموا قط. اعتقدوا أن ذلك برهان مقزز لعسل مر. تكرر الصوت ثانية. فخافت الأم على ابنتها، واستحيت أن تنادي ابنتها وهي نائمة مع زوجها. لكن غريزة الأمومة دفعتها للتفكير في وقف ما قد يؤذي ابنتها. نهضت وأشعلت التلفزة ورفعت الصوت.
كان هو أول من خرج من الغرفة. مرتعبا مرتعشا. وأول ما سقطت عينه على “الوالدة” (هكذا كان ينادي أم زوجته). قال ورأسه إلى الأرض: اسمحي ليَّ الوالدة….كان الهلع يفترس مشاعرها….فاستفسرته بلهفة: هي لاباس؟ ردّ: ناعسة…فاستدركت: هي مللي كانت صغيرة راه العطش يؤثر في تنفسها، سأدخل لها شربة ماء. افتعلت هذا المبرر لتطمئن على سلامة ابنتها…
وضع يديه على وجهه، ولما رجعت الوالدة مطمئنة على ابنتها نائمة سالمة. لتجلس في الصالة أمام التلفزة قبالته، لاحظت انحدر الدمع على وجنتيه من تحت يديه.
سألته: ياكلاباسأوليدي؟
وقبل أن يرفع يديه عن وجهه، وهو ما تثاقل في فعله، نهضت هي إلى الثلاّجة وحملت إليه قطعة من الدلاّح، ريثما تخف مشاعر التوتّر لديه. قالت: برّد بالدلاّح قد يكون الكابوس تسبب لك في العطش.
كانت تعرف أنه معتقل سابق، وكان خبر سنوات الرصاص يرعب الناس ويزاوج في أدمغتهم بين السياسة وبين النحس الذي كان بمثابة التوأم للسياسة. وكانت تعلم أثر اليتم في مشاعره. نهضت إليه وجلست بجانبه ووضعت رأسه بين يديها.
إثرها، انخرط في شهيق لم يعرف كيف ينهيه مستحْيِيًّا من نسيبته “أمه”. كان يريد أن يشرح لها كيف أن مشاعره بخير، لكن فوران البكاء يقطع كلماته، فينحني مرة أخرى ويترك رأسه بين يديها. حتى يستعيد صحوة الاطمئنان والارتياح.
لأول مرة، نهض وأتى يشعل سيجارة ويدخن داخل المنزل أمام “أمه”. لم يفعلها من قبل. ثم أردف يخاطبها:
اسمح لي الوالدة. “خذ راحتك…” قالت. لاباس لي بعده باقي بالروح من ذاك الوقت لليوم. نحمدو الله ونشكروه. ها انت سمعت الوليد مسكين، مشى عند الله….الله يجعلها في ميزان القبول لوالديه وللمغاربة كاملين. قبّلها في رأسها وقال: كل وقت عنده البئر ديالو. راه شحال من بئر حفروا عنوة سنة 2017…قالت الحديث القدسي يذكر “رحمتي تسبق غضبي”. ردّ متنهدا مفرغا ما في صدره الأسف المتراكم فقال: ولكن غضبهم يسبق ويصبح مزمنا. ورحمتهم عندما تطفو، تصبح الشجرة التي تخفي غابة الغضب المزمن.
قالت: الله يجعلها في ميزان القبول، داك الشي دابا ولّى قديم…خصك غير انت تتعلم تنسى…قال: واييّه…لكن تخيلي…من داك الوقت لي كنت خدّام هنا…طردوا العربي من الخدمة عام 79، بسبب الاضراب…تماك…في الحومة…ما زلت أصادف العربي ساهيا فاقد الارتباط بالمجتمع…في كل فصول السنة …أشاهد العربي النقابي سابقا…مشرّدا في الشوارع….آبار الأمس واليوم… يحرصون على أن تبقى مرتبطة ببعضها البعض بحال الخطاطر في مراكش.
تلك هلوسة متبقية من آثار بئر الأمس.
أحمد الخمسي