حول الدوافع الاستراتيجية للهجوم على أوكرانيا
في سنة 1962 اتفق كل من “نيكتا خروتشوف” رئيس الاتحاد السوفياتي حينها مع الرئيس “الكوبي فيديل كاسترو” على وضع صواريخ روسية في كوبا، وهو ماعدته أمريكا حينها تهديدا لأمنها القومي بعد أن وصل الخبر إلى الرئيس الأمريكي آنذاك”جون كندي” ليهدد بشن حرب على الاتحاد السوفياتي ولو أدى ذلك إلى إشعال حرب عالمية ثالثة في حالة عدم تراجع السفن الروسية التي كانت تنقل قطع الصواريخ إلى كوبا، على الرغم من أن الجزيرة الكوبية تبعد عن الولايات المتحدة الأمريكية بمئات الكلمترات.
اليوم يتكرر نفس السيناريو على حدود روسيا، بل على المسافة صفر منها هذه المرة، حيث يعمل الناتو مع الولايات المتحدة الأمريكية على عسكرة أوكرانيا والدفع بها إلى الالتحاق بحلفهم العسكري مخالفين بذلك وعودا سابقة لغورباتشوف بعدم التوسع مقابل قبوله بتوحيد ألمانيا، مما سيمكنهم من بناء قواعد عسكرية ومنصات صواريخ ولم لا تفعيل المشروع النووي هناك كما صرح بذلك الرئيس الأوكراني نفسه في إحدى خطاباته الحماسية، مما استفز الرئيس الروسي بوتين الذي لم يكن ليتنازل عن أمن روسيا القومي ولو فرضوا عليه كل أنواع العقوبات التي يمكنهم فرضها.
وبما أن بايدن يدرك جيدا أهمية الأمن الاستراتيجي لدى رجل مخابرات سابق كبوتين وخطورة التهديدات الأمنية والعسكرية التي بات يستشعرها بعد هيمنة حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية على القرار السياسي والعسكري في أوكرانيا، فقد كان متأكدا من أن روسيا ستهاجم أوكرانيا عما قريب، خصوصا بعد رغبة الرئيس الحالي”زيليسنكي” الانضمام إلى حلف الناتو ورفضه التفاوض مع روسيا حول هذا الموضوع.
من جهة أخرى فإن معظم وسائل الإعلام الغربية كانت تغض الطرف عن تجاوزات وجرائم اليمين المتطرف أو من يسمون بالنازيين الجدد في حق المواطنين الأوكران من ذوي الأصول الروسية، بدعم وتواطؤ مفضوح من حكومة كييف الحالية، حيث سبق لهم ارتكاب عدة جرائم من أبرزها حرق عدد من المواطنين الروس في أوكرانيا في مقر نقابة أوديسا إبان أزمة القرم سنة 2014. واستمر هذا الاضطهاد إلى ما قبل اعتراف بوتين باستقلال جمهورتي دونيتسك و لوغانسك ذات الأغلبية الروسية عن أوكرانيا وإصدار أوامره بتحريك وحدات الجيش الروسي لحمايتهم قبل تطور الأحداث بعد استهداف المتطرفين الأوكران للجيش الروسي أيضا في محاولة غير بريئة لجره للدخول إلى أوكرانيا.
هذا الأمر الذي تقف وراءه أيضا دوائر استخباراتية غربية وعلى رأسها وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي اي ايه” التي أخلت مقراتها في كييف بعد تأكدهم من نجاح الخطة لاستدراج بوتين إلى أوكرانيا لأهداف استراتيجية لم تعد تخفى على أحد.
فهم لم يخفوا يوما تبرمهم من روسيا التي كانت يوما تقود الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو وتحقق توازن القطبية في مواجهة نفوذ أمريكا، بالرغم من تخليها عن النموذج الشيوعي وتحولها إلى الرأسمالية وانفتاحها على العالم الحر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد سعوا مباشرة بعد تفككه إلى ضم الجمهوريات المنفصلة عنه إلى حلف الناتو، بل إلى التدخل في بعضها بتدبير الانقلابات وإشعال الحروب بالوكالة ضد روسيا كما حدث في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا نفسها، حيث تم تدبير انقلاب على الرئيس السابق “يانوكوفيتش” سنة 2014 عبر إشعال موجة من الاحتجاجات في البلاد بعد فوزه في انتخابات نزيهة باعتراف المعارضة الفاشية نفسها ليتم دعم صعود الرئيس الحالي “زيلينسكي”، والذي فتح الباب على مصراعيه لتدخلات الغرب في البلد، فضلا عن دعمه لتيار اليمين المتطرف وتغاضيه عن جرائم وتجاوزات النازيين الجدد من عصابات “بانديرا” المتطرفة.
كل هذا كان هدفه إنهاك وتحجيم الدب الروسي خصوصا بعد صعود نجم بوتين وتحالفه مع الصين ومواجهة نفوذهم في عدد من المواقع كسوريا، والقوقاز وإفريقيا الوسطى، وهو الهاجس الذي بات يقلقهم في ظل تكتل روسيا رفقة قوى أخرى صاعدة لمواجهة هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية من جديد، والتي سعت ومازالت تسعى في الحفاظ على حالة الستاتيكو بعد الحرب العالمية الثانية التي أفرزت قطبا وحيدا تقودها أمريكا أمام ضعف الاتحاد الأوروبي والناتو نفسه الذي بات يتبع سياساتها وأجنداتها عبر العالم بعد الأزمات المتتالية التي ألمت به، والتي يبدو أنها ستزيد بعد فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا خصوصا عند الدول التي تعول بشكل كبير على الغاز الروسي.
اليوم يتجه الغرب بقيادة الولايات المتحد الأمريكية إلى تكرار السيناريو الأفغاني والسوري حديثا في أوكرانيا بعد أن تعالت الأصوات لفتح الباب للمتطوعين عبر كل دول العالم للالتحاق بجبهات القتال في أوكرانيا، كما دعت إلى ذلك وزيرة خارجية بريطانيا بل الرئيس الأوكراني نفسه، فضلا عن إغراق أوكرانيا بمختلف أنواع الأسلحة المتطورة لمواجهة الجيش الروسي الذي بات يسيطر على معظم البلاد بعد أن استطاع تدمير أغلب المواقع العسكرية والدفاعات الجوية التي كانت تشكل خطرا على تقدمه وسيطرته على الجو، مما قد ينذر بالرغم من ذلك بإطالة عمر الحرب كما يتمنى ويراهن عليه الغرب بشدة، عبر تحويل أوكرانيا لمستنقع جديد للدب الروسي، معززين هذا التوجه بعقوبات خانقة تهدف بالأساس عزل روسيا عن المجتمع الدولي.
لكن، ورغم التهويل الإعلامي الذي بات يرافق تطورات الحرب في أوكرانيا بدءا من المغالاة في عدد القتلى داخل صفوف الجيش الروسي إلى حجم العقوبات التي لايمكن تطبيقها بشكل قاطع خصوصا في ظل تداعياتها التي ستعاني منها عدد من الدول الأوروبية المرتبطة بالاقتصاد الروسي، فإن بوتين يبدو غير آبه بكل هذه البروباغندا، وكأنه استعد جيدا لهذه الحرب الكونية التي سبق وأن عاينها وشارك فيها بسوريا عندما تكالب العالم لإسقاط النظام هناك، ليقف على فشلهم وسقوط مخططاتهم وأجنداتهم المشبوهة في مواجهة بلد لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بما وصلت إليه روسيا بوتين من تفوق عسكري واستراتيجي بات يزعزع عرش أمريكا.
محمد أكديد- باحث في عام الاجتماع السياسي