أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(28):سير اليساريين الجدد على خطى القدماء
أحمد الخمسي
يقتبس يسار القرن 21 من تراث الاشتراكية العلمية، ما ينفع المستضعفين في الأرض، وينقذهم من رزايا الفقر والظلم والجهل. فما اشتغلت الرأسمالية يوما سوى ما لخصه شومسكي عنوانا لأحد كتبه “الربح فوق الشعب”. فإذا كانت الأنانية البرجوازية تقلب قوانين الطبيعة لفائدة “قوانين” السوق، بحيث يصبح الأصل (الإنسان) في خدمة الفرع (ربح فئة أقلية من المجتمع الإنساني)، فشعار اليسار يقتضي أن يكون “الرجوع إلى الأصل فضيلة”.
وإذا كان قـُطْـبَـــا الليبراليين والأصوليين يتشدقان بالمحافظة على التراث والهوية، فالتراث الذي يجمعنا بهم، اتبع حتى في الأحكام القضائية (الونشريسي) مبدأ “درء المفاسد أولى من جلب النِّـعَــم” (المالكية). وإذا كان مبدأ “أينما وُجِدَت المصلحة، فتمّ شرعُ الله”، فالمصلحة المعنية لم تكن يوما “المصلحة الطبقية الأنانية”. ولكن المصلحة العليا.
ثم عندما يصلح الليبرالي قعدته فوق الكرسي الاستثماري، ينسى التراث والقيم، ويردد “الرأسمال لا وطن له”. ينسى الليبرالي أنه كبر في حضن الاستعمار، أو يكرس بشعاره ذاك وفاءه لأنانيته الطبقية ولخدمته الاستعمار، فيتابع خيانته للوطن تحت شعار: الرأسمال لا وطن له.
كل الشعوب التي استردّت سيادتها وبنت دُوَلُها قرارها السياسي مستقلا عن الدوائر الاستعمارية، أرست مواثيقها وعقودها السياسية المجسّدة في الدساتير على المصالح العليا للوطن والشعب،
ويظهر أن الأنظمة مهما احتمت بالدوائر الاستعمارية للحفاظ على كراسي الحكم، تجد نفسها بعد مرور التجربة الكافية من الحكم، في حاجة إلى تقوية السوق الداخلي، ولا استقرار للسوق الداخلي دون تبني سياسة داخلية متوازنة. ومع السوق والسياسة الداخليتين، لا تدبير ذاتي منخفض التكلفة، إذا لم يكن الناس المعنيون قد تلقّوا التعليم الكافي والعناية الطبية الكافية، والقيم المبنية على العدالة الاجتماعية وعلى المساواة بين الجنسين. لذلك، قال أمارتيا سن (الهندي الأمريكي صاحب نوبل في الاقتصاد): لم يكن ماوتسي تونغ يعلم أنه بسياسته الاشتراكية في التعليم والصحة جعل شعبه مهيأ للتقدم حتى لو انقلبت السياسة الاقتصادية في الصين نحو الرأسمالية. بينما الهند التي اتبعت التعددية الحزبية والانتخابات طريقا لتنصيب حكومة الأغلبية في البرلمان، لم تنجح في تنمية الموارد الاقتصادية ولم توفّر الشروط الكافية للصعود الاقتصادي لأنها أهملت تعميم التعليم والصحة. فبقيت ديمقراطيتها الليبرالية التمثيلية تفيد الجزء الأعلى فقط من الهرم الاجتماعي. بينما تمكنت اليوم الهند من منافسة الصين في الصعود الاقتصادي، بفضل ولايتين صوّت سكانها لمدة ثلاثين عاما لفائدة الحزب اليسار. فأعطى اليسار الحاكم في الولايتين الهنديتين الأولوية لتعميم التعليم والصحة وللبنيات الطرقية والموانئ والمطارات والسكك الحديدية. فأصبحت الهند بفضل يسار الولايتين تصدر المهندسين الإعلاميين وتستقبل الرأسمال الغربي.
بل، دُفعت النخب الليبرالية دفعا من طرف الأنانية الرأسمالية العالمية إلى البحث عن مصالحها العليا، فالأنانية البرجوازية نفسها ليست ضارّة ضررا كاملا، بل تجري عليه قوانين التنافس على أسس الهوية القومية، والمحاسبة القانونية، في المؤسسة الديمقراطية الليبرالية، التي انبنت على العقلانية والتنوير والثورات الشعبية. والثورات الشعبية إذا لم تتجدد، تتخشب الأنظمة البيروقراطية وتعود إلى الاضطهاد المفرط، أو تنزاح الأنظمة المبنية على المناورة مثل الرأسمالية لتعود إلى الاستغلال المفرط.
***
من التجارب السياسية التي اعتمدت الاشتراكية العلمية خلال القرن العشرين، ظهر أن الأنظمة اليسارية وجدت نفسها بمعية بنية ليبرالية حمّالة أوجه. وتحت سقف رأسمالي أمتن بنية وأطول تجربه ودواليبه مطواعة وقابلة للتمطيط الاجتماعي. فلما تصلبت بيروقراطيتها واستغنت عن السيادة الشعبية، تخشّبت وانكسرت من ذاتها. تلك حالة الاتحاد السوفياتي. أو استخلصت أنها مضطرة لاقتسام المجال الاقتصادي الليبرالي الدولي وفتح أبوابها من جديد لاكتساب المناعة الاقتصادية وجلب آخر المبتكرات وتخصيب شعبها بخميرة الحيوية المقاولاتية. تلك حالة الصين في عهد دينغ سياو بينغ (باتفاق مع شوان لاي) وكذلك فعل الحزب الشيوعي الفيتنامي إلى اليوم. أما الأحزاب التي لم تفهم ضرورة ذلك فقد سقطت بالكامل، وظهر أن الشعب لم يعد مقتنعا بالدفاع عن البيروقراطية السوفياتية بعدما أتيحت له فرصة ذلك أواخر العهد السوفياتي (محاولة انقلاب الجيش السوفياتي 19 غشت 1991).
***
اليوم، وبعدما يكاد ينتهي الربع الأول من القرن 21، تضاف وحشية النيوليبرالية الرأسمالية مع تجربة عولم القطب العالمي الواحد الامريكي الذي يترنح نحو الصف الثاني، إلى فشل الاشتراكية البيرقراطية التي سقطت، فنستخلص جميعا، ما ذهب إليه المؤرخ الماركسي البريطاني، إيريك هابزباوم، من كون القرن العشرين كان “قرن التطرفات” والحروب. كما نتأكد من كون الاقتصادي البريطاني جون مينار كينز، الذي نصح الغرب في منطلق الحرب الباردة، بضرورة إرساء منظومة مكاسب اجتماعية للطبقات العمالية والمنتجة. مما أرسى تجربة “دولة الرفاه” طيلة نصف قرن (1945- 1991).
الخلاصة من كل هذه التنويعات القومية والوطنية تحت السقف العالمي، هو بناء السياسة اليسارية يجب أن يتمَّ تحت سقف الوطن الواحد. هذه الخلاصة لا تعني التطابق والتماهي بين المعارضة والأنظمة، لكنها تتخذ المساحة الوطنية مربعا حيويا لقياس الجهد اليساري في المساهمة الفعلية في تقدم السياسات والاقتصادات والثقافات. ومن هذه الزاوية، يأتي اليسار متأخرا مقارنة مع قطبي الليبراليين والأصوليين، حتى وهم مناضلو الساعة 25، كما وصفهم القيادي الاتحادي محمد اليازغي ذات يوم. وهذا يعني، مراجعة المنهجية اليعقوبية الفرنسية التي اتسمت بالحدّة تجاه الأنظمة الوطنية. علما أن “اليعقوبية” الفرنسية التي اندثرت بالتدريج تحت حكم الديريكتوار ثم نابليون، تجدّدت يقينيتها المعانِدَةُ تحت اسم “الحزب الثوري”.
***
اليوم، وبعدما استفادت القوى اليسارية من نقط ضعف تجارب اشتراكية القرن العشرين، صعد اليسار في ثاني أكبر بلد في أمريكا اللاتينية، المكسيك. وحتى صعود اليمين الشعبوي في البرازيل لم يستطع خلق البديل عن اليسار. وعندما نبقى في بلدان أمريكا اللاتينية ذات البنيات الديمقراطية الراسخة، فرغم محاولة الولايات المتحدة إرجاع الشيلي الى بيت الطاعة (انقلاب بينوتشي 11 شتنبر 1973)، فقد صعد إلى البرلمان ورئاسة الدولة اليسار الشيوعي والاشتراكي عن طريق الانتخابات بعد حراكي شعبي عارم، انطلق سنة 2011، وتجدّد سنة 2019. تمَّ تتويجه بمراجعة الدستور وتنظيم الانتخابات. إذ يوجد اليوم رئيس شاب (36 سنة) بمعية حضور نسائي وازن، يصل المناصفة.
***
في المغرب، مرة أخرى يجب التذكير بمسألتين:
المسألة الأولى “الأقرب” وهي شهادة أمريكا كون الاشتراكي الموحد، كان أحد الأطراف الثلاثة الذين أسندوا حركة 20 فبراير بمثلث اللوجيستيك وكم المتظاهرين وعناد التطرف. أصحاب الكم معروفون وقد انسحبوا من الساحة عندما تبوأ أبناء عمومتهم مقاعد الحكومة. وأصحاب اللوجيستيك سقطوا في وهم العناد والعدمية تجاه لجنة الدستور والانتخابات السابقة لأوانها. مما خفّض كلفة المناورة على الطبقة السياسية التقليدية التي وجدت نفسها في مهام الواجهة السهلة.
المسألة الثانية وهي “قديمة” ومجهولة ولو أن عناصرها كانت معروفة ولكنها مختفية وراء الألوان البرّاقة. ما هي هذه المسألة؟ النقد البراق لايكس-ليبان
لم تمارس المؤسسة الملكية قط القطيعة مع اليسار. ولأن اليساريين الذين اختلط عليهم الصدق مع البلاهة والبلادة، تركوا النقد اليميني يسري بينهم وكأنه من بنات أفكارهم هم. وهو النقد الذي تعلق باتفاقية إيكس ليبان. جزئيات الصورة المجمّعة لتفرز “الرأي العام” حول ايكس ليبان، كانت جزئيتها الأولى موقف علال الفاسي الذي طبعت الانسية والسلفية الجديدة جذر مواقفه المحافظة، ولم يكن ضمن الوفد المفاوض، لإقامته بالقاهرة. بينما كان عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة الوجهان الحقوقيان بين وفد المفاوضين. ومثلما يقوي الاطلاع على الانجليزية صاحبه اليوم كان الاطلاع على اللغة الفرنسية يلعب دوره في تلك الفترة. والمفاوض بنفس اللغة ليس كمن يفاوض عن طريق الترجمة.
ولأن مثلث المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبدالله ابراهيم كان في حل من هذا العطب، فقد كسب ثقة المؤسسة الملكية والفرنسيين، وهو المثلث الذي كان أكثر إخلاصا للقوات الشعبية التي خرج منها علال بن عبد الله الشهيد من أجل الشرعية داخل العائلة العلوية. ومن حسن صدف التاريخ (أو حصافة عقل محمد بن يوسف) أن يصبح الملك محمد الخامس ذا نزوع عاطفة على الجناح اليساري في حزب الاستقلال، فكان من بينهم رئيس المجلس الوطني الاستشاري (المهدي) ورئيس الحكومة (عبد ابراهيم) ووزير الاقتصاد (عبد الرحيم بوعبيد). بعدما تكدّر صفو السياسة على رئيس الحكومة من قبل من وسطه الحزبي الاستقلالي قبل غيره (أحمد بلافريج). هكذا أصبح نقد مؤسسة إيكس ليبان سلاحا يمينيا استقلاليا لضرب ثلاث عصافير بحجر واحد. ضرب الجناح اليساري المنشق، والتشكيك في المعاهدة التي أرجعت كصيغة ضمن القانون الدولي محمد بن يوسف إلى موقعه الشرعي، بدل “الشرعية” الاستعمارية التي أرادت أن تجازي الباشا الكلاوي على عمالته بجلب صهره محمد بن عرفة العلوي من عترة السلطان محمد الرابع بدل حفدة الحسن الأول.
ومن جهل اليساريين الجدد أن الحيلة انطلت عليهم كونهم يمسكون غرقى بخشبة الجهل ويرددون أي كلام. كان على اليساريين الجدد أن يجهدوا أنفسهم ويخصصوا الوقت الكافي لاكتشاف تدليس استمر الى اليوم. وهو القول بأن الزعيم علال الفاسي هو مكتشف مصطلح “التعادلية” (المقال الثاني من هذه السلسلة)، بحيث كررها حليف الزعيم، الراحل عبد الكريم غلاب في كتابه “ملامح شخصية علال الفاسي” وأفرد للتعادلية فصلا خاصا يؤكد أن الفاسي هو مبدع التعادلية سنة 1963 في ورقة قدمها للمؤتمر الاستقلالي ساعتها. بينما ألّف توفيق الحكيم كتابا سنة 1955 بنفس العنوان، كي يقترب من النظام الناصري دون أن يوحي لأحد بأنه يعني الاشتراكي، خوفا من تهمة “الشيوعي”. إذ المعروف عن الراحل عبد الناصر شعار “لا حزبية بعد اليوم”.
الخلاصة الأخرى ها هنا، هي أن تهمة/عبارة ابن خلّكان في وفيات الأعيان، لما قرأ كتاب “العقد” (الفريد) لابن عبد ربه، “هذه بضاعتنا رُدّت إلينا”، على وزن الآية القرآنية التي حكت قصة يوسف في السورة بنفس العنوان رددها إخوة يوسف على سمع أبيهم. فالزهد الديني من جانب مسلمي الغرب يحولهم الى كثير من البلادة يكررون كل ما يأتي من الشرق، وبئس الحفدة اليساريين الذين ما بدّلوا تبديلا في شأن البضاعة الفكرية.
أصل الداء في كل هذا هو الكسل وعدم القراءة
بينما في كل مرحلة بشرية لا بديل عن العلم
والببغاء عمره قصير



ما خاض فيه الرفيق أحمد الخمسي هو موضوع تتجنبه فئة من يساريي اليوم، بل إن الإشكال هو في فهمهم لماهية اليسار.
مع تحياتي للجريدة وللرفيق.