ذ. عبد الواحد حمزة :المشروع والرقمنة والبيئة والعمل من أجل ” عالم أفضل”(الجزء الثالت)
القسم الثاني: مكانة مفهوم العمل في ظل الرأسمالية الاحتكارية المعممة اليوم وفي أفق اشتراكية الغد
لقد اعتبر الكثير أن “العمل” آيل للتبخر، ومن تم الضربة القاضية لما ينبني عليه اليسار واستراتيجياته: القوى العاملة/ الطبقة العاملة/ البروليتاريا، الخ. لا شك أن هناك تحولات أساسية مست في العمق مضمون هذه القوى الاجتماعية، مما سيؤثر على مكانتها في الإنتاج وفي الحقل السياسي، ومنه المغربي. وللعلم فماركس لم يدْرُس الاشتراكية، في ذاتها، لكنه حلل علميا النظام الرأسمالي الاقتصادي، في كتابه الضخم: الرأسمال، 3 أجزاء، المنشورات الاجتماعية. وخصص له أزيد من 20 سنة من عمره الشيخ (حسب تحقيب ألتوسير لويس).
والحال أنه لم يعمل أبدا على عزل إشكالية العمل عن طابعها التاريخي الاجتماعي، وكذا عن سؤال التقنية والتكنولوجيا. فإلى أي حد يمكن اعتبار العلاقة بين هذين الأخيرين – حقا ودائما – علاقة طردية، متناقضة ومتنافرة ومضادة؟. هل انتفى الحديث عن شروط الاستغلال – الاستبداد – الاستحواذ، كما تدعي ذلك النظرية النيوليبرالية التي تُعطي لكل فرد / “فاعل إنتاج” حسب إنتاجيته الفردية والحدية؟ هل لم يعد معنى لمفهوم “فائض القيمة Plus value”، خاصة وأنه من أهم ابتكارات ماركس على الإطلاق؟ فما جدواه في ظل الرأسمالية الاحتكارية المعممة Capitalisme monopolistique généralisé(سمير أمين) اليوم؟ وهو ما سنتعرض له في نقطتين: تحدي الانتقال الرقمي والاقتصادي والبيئي والمؤسساتي (أولا) وسنحاول الإجابة عن سؤال في مفترق الطرق بين ما عليه الرأسمالية اليوم من تناقضات صارخة، وما نستشرفه من آفاق لليسار الشعبي، فأيهما في أزمة “آلعمل المأجور” أو “العمل الإنساني” في حد ذاته؟ (ثانيا).
أولا: تحدي الانتقال الرقمي والاقتصادي (…) والبيئي والمؤسساتي
لدراسة العلاقة بين قوى العمل والتكنولوجيا والرقمنة واستشراف بعض ملامح سردية اليسار الممانع في أفق 2021، لابد- في رأينا- من الانطلاق من مشروع ماركس الأصلي. إنه يفترض في تحليله النقدي لرأس المال فصل نمط عمل قانون القيمة الرأسمالي عن قناعه المتمثل في مظاهر عمل الأسواق. ومن الواضح كيف أن هذا يمثل خياراً غير مفهوم بالنسبة للاقتصاد البورجوازي والرأسمالي [المتخلف والتابع]، والذي يعتقد، بروحه المتميزة بالمنطق الشكلي والوضعية الأمبريقية، أنه يستطيع فهم “الواقع”، مباشرة (انظر سمير أمين 2019، نظرية القيمة…، ص 36، مصر).
كما أن عمله الجبار انتهى بنقد الاقتصاد البورجوازي برمته، وبتحول ضروري من التحليل المتمحور حول السوق إلى تحليل أعماق الإنتاج، حيث يتحدد كل من القيمة واستخلاص فائض القيمة، فمن دون هذا التحول من النظرة السطحية إلى دراسة الجوهر، أي من الظاهر إلى الخفي، لا يمكن أن يكون هناك نقد جذري للرأسمالية، (ولكافة أشكالها التطورية، في الهوامش وبلدان النمور) (انظر سمير أمين، ص 112، نفس المصدر).
وبالرغم من أهمية ما كتب في مرحلة شبابه (البيان الشيوعي، مخطوطات 1844، الخ…)، وفي تثمينه لما أنتجه مؤسسو الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، بيّن أهمية وحدود نظرية آدم سميث (العمل المطلوب: Travail commandé) ونظرية ريكاردو (العمل المستدمج= المندرج في البضاعة Travail incorporé)، لكن تحليله للعمل تم حسب مقولة (العمل الاجتماعي المتوسط Travail social moyen)، وهو بهذا لا يقيم وزناً لنظرية عوامل الإنتاج التي تضع العمل والرأسمال على نفس قدم الأهمية. وقد دقق في التمييز بين معنى (العمل الملموس Travail concret) و(العمل المجرد Travail abstrait)، كما ميز أساسا بين “العمل Travail ” و”قوة العملForce de travail ” ، مما مكنه إعطاء مفهوم “الاستيلاب”Aliénation أساساً علمياً، وهو “الاستغلال Exploitation” وإنتاج ” فائض القيمة ” (Plus value)، الخ.
من بين ما يفرضه التحول الرقمي على اليسار – ومنه المغربي – التموقع/ التموقف من التحديات والرهانات والديناميات التي يخلقها على صعيد مجموع العلاقات الاجتماعية عموما، وعلى مستوى علاقات العمل/ التشغيل المأجور، بوجه خاص. وذلك بالرغم من حدود مفهوم “الإجارة” النظري- العملي في البلدان المتخلفة والتابعة لمراكز القرار الرأسمالي – الامبريالي (حدود القطاع الخاص في المغرب، …). فأيهما آيل للتجاوز: “آلعمل” أو “العمل المأجور” أو الانتقال الاقتصادي من الرأسمالية في أفق اشتراكي؟
لقد تغلغلت “الحكامة بالأرقام” في داخل العلاقة الأجرية – الرأسمالية في العالم، “اشتراكية” كانت أم “رأسمالية متطورة”، “أ”شمولية” كانت أم “ديموقراطية” ! وأصبح من اللازم على قوى التغيير والتحرير إيقاف المد الجنوني للتقنية والعلم، ومنه التعامل بـ”إنسية” مع التحول السيبراني – العالمي وفي بلادنا، بل واعتماد بدائل جريئة تعيد التوازن للإنسان وللمجتمعات وللعالم.
لقد دخلت بلادنا “الرقمنة”، وفضلا على أنها أخذت في بعض ملامحها شكل “الموضة”، فهي في حد ذاتها دينامية موضوعية متناقضة الملمح. فبقدر ما يمكن أن تحرر الناس/ المجموعات/ الشعوب/ الدول من روتين العمل وعنف قوى الإنتاج وسطوة علاقات إنتاج – مخلفة الكثير من الآلام والجروح والتعب والكره في ظروف العمل – غير مستساغة (هشاشة، فقر، إقصاء…)، بقدر ما يمكن أن تحرر البشر من شظف العيش وتكبيل الحريات الفردية والجماعية والإخضاع للمراقبة القسرية، وما يمكن أن تحبل به من ابتزاز وتحرش (…) وغيرهما، وهو ما يضع العالم/ المغرب أمام أزمة مركبة، ذات ثلاث أضلع، على الأقل: تكنولوجية، إيكولوجية ومؤسسية، تستدعي التفكير والتجاوز والنفي.
ليس النقاش مع الأستاذ خ.أ نقاشا تقنيا محضا، وإنما هو نقاش في الفكر والرؤية والتاريخ السياسي والاقتصاد والمجتمع والتطور الحاصل على مستوى البنيات والسلوكات للنخب وللجمهور الواسع من المغاربة.
وعليه، فإننا نلاحظ تغييرا حاصلا في النمط الإنتاجي – العالمي وفي المغرب – في شكله ودرجته وحركته، وليس في طبيعته – الأساس: استجلاب الربح الأقصى – اعتماد استغلال الإنسان للإنسان (…)، المحمول على أحصنة مجنونة من العلم والتقنية.
وككل يساري، يهُمّ الأستاذ خ.أ التساؤل عن أنجع السبل للانتقال إلى اشتراكية محددة، مفتوحة، أصبحت تعرف- فيما تعرف- بـ”اشتراكية ق 21”. ولذلك دعا إلى حوار فكري يصوب النقاش نحو أهداف محددة: التفسير العلمي – الإيديولوجي للنظام الرأسمالي العالمي المسيطر، واستخراج الطاقة الكافية من الفكر- النقدي لدفع الواقع – عندنا وفي العالم، نحو التحول الديموقراطي (…). وأخَصّ بالتقدير “الماركسية”، على أساس تمثل جديد لها، مختلف عن تمثل ماركسي ق. 20- نظريا وعمليا – .
هكذا وإن كان لماركسيي الفيتنام أن هزموا الإمبراطورية الأمريكية، فإن ذلك كان في جولة متميزة لحركة تحرر وطني. والجولة ليست الحرب بكل حلقاتها، فهي غير الحرب والصراع الطويل والمتعرج مع قوى الهيمنة للاستعمار الجديد والامبريالية. والحال أن صراع الأقطاب، اليوم، هو على أشده وعلى الأصعدة الاقتصادية والتكنولوجية، والجيوستراتيجية، أساسا. لقد أفل نجم الحرب الباردة ليشتعل مرات ومرات أخرى، فلم تلبث الماركسية – التطبيقية أن أُسْقطت في عقر دارها (الاتحاد السوفياتي)، مثقلة ببيروقراطية مفصولة عن الإنتاج المادي (التخطيط – الكوسبلان…)، ليعود الروس- اليوم- إلى ساحة القتال/ الحرب كدببة مجروحة (الحرب في أوكرانيا…) والتحرش بالصين من طرف أمريكا في الطايوان، إلخ(…).
وبالرغم من صعود قوى/ أقطاب أساسية (الصين، روسيا…)، فلقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية طيلة القرن 20 إلى اليوم – على رأس القوى العالمية وتضبط حركة ومآل المقاولات الكبرى الأجنبية العاملة في ترابها. وبالرغم من صعود النمور – هناك وهنا – واحتدام المنافسة والصراع وإشعال بؤر التوتر والحرب، فهي لا تلبث أن تسطو وتحكم وتوجه بوصلة العالم – ما وراء المحيط الأطلسي وأوروبا وإفريقيا (…). لكن أليس ما هو مهم اليوم في العالم يدور رحاه في الشرق وآسيا ولنا في كتاب تاريخ العالم يقوم في آسيا (2017)، رؤية أخرى للقرن 20. إنه رؤية ” لا أوروبية – مركزية”، وإنما ” أسيو- مركزية”، لصاحبه بييرغروسيير، وهو المؤرخ المختص في العلاقات الدولية، والتي يدرسها اليوم في مدرسة العلوم السياسية، بباريس. إنا ما يثير في عمله الضخم (655 ص، دار النشر جاكوب أوديل، فرنسا) هو اعتباره كل من روسيا وحتى الولايات المتحدة، أنهم كانوا، بل ولا يزالوا دائما ” قوى أسيوية” ( سطر على أسيوية)، وهو ما سمح بقراءة جيوسياسية متجددة للقرن 20، ونستطيع عبر هذه الأطروحة فهم لماذا آسيا مهمة الآن، وأكثر من أي وقت مضى. وهو ما يدعونا إلى تنسيب أحكامنا حول “المركزية الغربية ” عموما وأفضالها الأنوارية. لقد حاول غروسيير إماطة اللثام عن الدور الحاسم- والغير معورف- الذي لعبته آسيا منذ 1900 على الساحة الدولية. هكذا كان انتصار اليابان على روسيا سنة 1905 حاسما في لعب التحالفات التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، كما عرف أن مندشوريا كانت منذ 1920 مهدا يحضر فيه للحرب العالمية الثانية. وأن الحرب الباردة ولدت في آسيا منذ 1945. ومن هنا- بالذات- تمت إعادة هيكلة النظام الدولي نهاية سنوات 1970. وللعلم فإن مراجع غروسير التاريخية صينية ويابانية ومن كوريا، على وجه التحديد.
لقد رام خ.أ تحليلا موضوعيا لواقع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الواقع المدفوع بقوانين جدلية شديدة التعقيد للانتقال الاقتصادي والسياسي والثقافي. لقد لاحظ أن أُفُول أمريكا يخلق أزمة عالمية، ومن هذه الأزمة تبحث الأمة عن بديل، بحيث لا يمكنها أن تتصور هذا البديل دون إدماج واقتراح “خطة طريق” للإنسانية جمعاء. فلا بديل ستصنعه لنفسها – في آخر المطاف- دون اتباعه وضرورة تعميمه واقتراحه على الباقين – مجتمعا وعالما. ومن هنا تجد قيمة “سمو العدالة” في الصدارة، مثلا. لكن تصدير” النموذج الديموقراطي” مثلا، أبان عن حدوده، وكثيرا ما غطى على تدمير مقصود للبنيات والسلوكات والمؤسسات المحلية (أفغانستان، العراق، اليمن….).
هكذا يجد المشروع اليساري الاشتراكي ضالته. وقد أسس ألفين توفلر (انظر “الموجه الثالثة” وكذا “صدمة المستقبل”، و”السلط الجديدة” والحرب و”الحرب المضادة”، الخ، وكان ذلك – صحبة زوجته فاريل أدلاييد طورا) لفكر مستقبلي حول التطور الاجتماعي والسياسي للاإنسانية منذ ما يناهز 10 آلاف سنة. لقد جزم الأستاذ خ.أ إلى أن بوصلة اليسار العالمي انتقلت من الشرق الروسي والصيني إلى ما وراء المحيط الأطلسي بالذات، وفي الولايات المتحدة، بالذات حيث تتم صراحة في الدول الشمولية مقايضة “غياب الديموقراطية” بتحسين نسبي لشروط الإستهلاك والحياة !. وأن الفكر اليساري للقرن الواحد والعشرون يصنع اليوم بدون ضجيج كبير – في الولايات نفسها، حيث العديد من الحركات تناشد الحرية والعدالة والإنصاف (اليسار الاشتراكي الديمقراطي – الليبرالي – التقدمي بحزب الديمقراطيين والحركات للشعوب الأصلية، الخ). ثم إن التحول الشامل هو تحول بالضرورة في المدى الطويل للإنسانية جمعاء. وهو جزم/ وتفائل يستدعي الحيطة والحذر !، ( أهمية الحلقات الأضعف في العالم الرأسمالي وحركات التحرر الوطنية والاجتماعية..).
يأخذ التحول التكنولوجي اليوم – بعد 1500 سنة قبل الميلاد من اكتشاف النار – مضمون الحاسوب الرقمي. وتستدعي الثورة التقنو- اقتصادية –اليوم- العالم برمته إلى الانتقال الرقمي. وهو في صميم التطور العلمي الاستراتيجي للدول والمجتمعات والأفراد. وهو ما يطرح، بالتمام والكمال، موضوع ضرورة تملك قوى اليسار/ “شعب اليسار” – من جديد – لناصية التقدم، واستكمال دورة الوعي السياسي، وتسهيل الحراكات التقدمية – الديموقراطية لكسب رهانات التحرر وفك رباط التبعية (…) وبناء الذات الشعبية- الوطنية.
والحال أن إنتاج المعرفة العلمية – التقنية غير استعمالها الفج والمبتذل. ومن الأهمية بمكان توظيفها توظيفا منتجا، فاستثمار الأدوات/ الآليات والرقمنات في حقل الاقتصاد الذكي واستيعابها المبدع. والحقيقة أن أي تقنية، أو أي تنظيم محدد للعمل، كالتايلورية أو الفوردية أو التيوتية، وغيرها، فهي “حمّالة لقيم”، وأي قسمة للعمل – في المقاولة أو على الصعيد الدولي – هي لقيم السيطرة أو الخضوع أو الانعتاق والسيادة.
ومما يؤخذ على لينين، مثلا، هو اعتماده على النموذج التايلوري – الفوردي في تنظيم الإنتاج، كما مورس في “سياسة النيب N.E.P”، حتى أدى ذلك إلى خلق طبقة من التقنيين والمتخصصين أو إلى “ارستقراطية عمالية” بطابع اشتراكي، قامت بالفصل ما بين عملية البناء الديموقراطي – الاشتراكي في المجتمع وعملية الإنتاج في المصنع ذات الطابع البورجوازي. هكذا تجلى خطأ لينين السياسي في اعتباره التقنية والتكنولوجيا القادمة من الرأسمالية شيء محايد (…)، فكانت وراء ظهور رأسمالية دولتية بغطاء اشتراكي (انظر الصعيب حسن 2022، انظر بشكل خاص “لينين وإشكالية نظام الشغل البرولتاري في كتاب له: مصدر سابق صص: 81-89).
والحال أن “الاقتصادوية” – كاليسراوية – تظل مرتبطة بالتحليل الماركسي المادي، وأن ثقل نمط الإنتاج يقع بالضرورة على قوى الإنتاج، في ما اعتاد “الاقتصاديون الماركسيون” قياسه بـ”الكوك”C.O.C/: “التكوين العضوي للرأسمال”! والانخفاض الميلي لمعدل الربح. وهو يحط التقنية ووسائل الإنتاج وقوى العمل في أول درجات التحديد الاقتصادي والمجتمعي برمته. وهو أيضا ما لا يترك مجالا كافيا للماركسيين – الكلاسيكيين لتأمل قضايا معاصرة كالبيئة والدين والثقافة والفلكلور (غرامشي…) !
تمثل الرقمنة والأنترنيت تقدما تاريخيا في تطور القوى المنتجة. إن الرأسمالية تدفع -من حيث لا تعلم- بالإعداد المادي للاشتراكية إلى الأمام. تسهل الأنترنيت- ككل بضاعة-، التواصل عبر الحدود للجماهير ووصولها إلى العلوم والتعليم والمعرفة الفنية، بالإضافة إلى التبادل الثقافي، كما توفر تسهيلات مهمة للعمل التنظيمي النضالي- الحركي، على الأقل.
ومع ذلك، فقد أخضعت الاحتكارات الحاكمة الأنترنيت بالكامل، تقريبا، كطريقة جدية فعالة للتأثير على الجماهير. ذلك أنها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تصل مباشرة إلى قلوبها وعقولها، وخاصة إلى لا شعر وأفئدة الشباب. تمكنت الحركات والأحزاب الفاشية والرجعية والفاشية الجديدة، بشكل رئيسي، من خلال الأنترنيت، من الحصول على موطئ قدم في المجتمع وتعزيز نفوذها بين شريحة متزايدة من الجماهير.
إنها واحدة من الأكاذيب الحديثة لممارسة الدولة للسلطة، التي تحتكرها أصلا، والتي تشجع الأنترنيت – عوض قراءة الكتب والمجلات والتفكير المتأني (…). وبالتالي يتم الترويج للقصور الفكري لديها وإلى السطحية والعاطفة لديها، مما يعرض جميع المشاركين للمراقبة والتدخل من طرف أجهزة الدولة، والسرية منها، على وجه الخصوص. [انظر ستيفان إنجل (2021)، أزمة الإيديولوجيا البورجوازية…، ترجمة أديب ع. السلام (المغرب) ص 8-9].
وقد اتضح من خلال الأحداث الثورية الأخيرة، منذ الربيع العربي (2011)، الدور الذي لعبته وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في خلق “جمهور نفسي” غير مرئي، استقطب شعوبا بالآلاف، كما هو الحال في مصر وتونس واليمن والمغرب. وبينما يجتمع هؤلاء تتشكل طاقة انفعالية هائلة – ومنظمة – لا يمكن ثنيها بأي شكل من الأشكال على المضي قدما في مسيرتها. (انظر بن أحمد جوكا (2012)، “احتضار الديكتاتور: سيكولوجيا الجماهير الثائرة/ قراءة من منظور التحليل النفسي وعلم نفس الجموع”، وجهة نظر (مجلة عدد 52).
ولا بد لقوى التغيير اليوم أن تلعب لعبة/ “ثورة الرقمنة” في صراعها الاجتماعي – السياسي، ضد النظام القائم، فهي تعي – الآن – دور شبكات التواصل لخلق وتحفيز جمهور نفسي افتراضي – قد ينقل معاركه – حينها – إلى الواقع الملموس، وما يلعبه من دور في التدبير الزماني والمجالي اللحظي للتجمعات الثورية (انظر تجربة المقاطعة الأولى والحالية وحِراكَيْ الريف (2016)/ “الشّن طن” وجرادة (2017)، (…) على الخصوص، وغيرهما.!!
ومن المعلوم أن ماركس عالج البنية – التكينولوجية- الصناعية للرأسمالية، فكان غائبا لديه إلى حد كبير- إبستيمولوجيا – تحليل الطغمة المالية. ذلك أن هذه الأخيرة لم تصبح مسيطرة على صيرورة الإنتاج، برمتها، إلا في زمان كينز جان ما ينار، بالطبع. ولهذا كانت البورجوازية الصناعية والبروليتارية المحتشدة في المدن الكبرى طبقتا تحليله المركزية للصراع الطبقي. ولم يغير في شيء من المعادلة تطور “النقابية” و”التفاوض النقابي” حول اقتسام “القيمة المضافة”/ فائض القيمة، بالرغم من تحسن المعادلة (عقد الشغل الفوردي).
وطبيعي أن انحسار الصناعة في البلدان المتخلفة – عدا بلاد النمور الجديدة – وتراجع السياسات الصناعية بها، مع العولمة والتخصص الدولي، سيجعل المقولات التحليلية الماركسية (بورجوازية – برولتاريا،…) محدودة النجاعة وقاصرة في الإلمام بتعقد التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية لبلد كالمغرب (انظر مفهوم “المجتمع/ الاقتصاد – المركب” عند باسكون بول، انظر مفهوم التعقيد عند إدغار موران…). ولعل ذلك ما سيتطلب من بعض مثقفي اليسار – عندنا – توسيع بناء الأداة السياسية/ الحزب من منظم مقتصر على “الطبقة العاملة” إلى جمهور الكادحين، أي إلى “بروليتاريا جماهيرية” (الصعيب حسن، 2022)، عوض ” التكور” إلى اعتماد فهم طبقوي ضيق للطبقة/ الشريحة/الهدف المركزي (انظر المؤتمر الأخير يوليوز 2022). وقد يكون الحزب على حق لهول ما خبره من صعوبة تأطير” طبقة عاملة متشظية”، لوحدها، وبالأحرى التوسع لتأطير مجموع الكادحين !
لقد عرف لينين بكتابه/ أطروحته في الامبريالية كمرحلة أعلى/ أو متقدمة للرأسمالية، لكن كم ستأخذ مرحلة الانتقال ذاك من وقت؟ وإلى أي نظام سياسي اقتصادي ما – بعد رأسمالي – إمبريالي؟ وأي أشكال ودرجات وبأي مداخل؟ فذلك أمر مرهون بقوة ومدى التحول الموضوعي التاريخي للعالم ولبلدان الجنوب أيضا. وهو ما يعني أنه مرهون – كذلك – بآلية الصراع الطبقي والعولمي وبآليات التحالفات ودوائرها (…) وبقدرة النظام الرأسمالي باستعماره الجديد والقديم وبافتراسه وتوحشه وبحروبه المدمرة (…) أن يتجاوز باستمرار – إلى حين – تناقضاته ليعيد إنتاج نفسه – ولو طحنا للخصوم والأعداء ! لكنه نفس لينين الذي كان يحلم بتنظيم الاتحاد السوفياتي على شكل العمل التايلوري – الفوردي، وكان يرى – طبعا – في كهربة كامل التراب السوفياتي البوابة، لذلك.
وفي زحمة التقدم العلمي والتقني تراجع البناء الديمقراطي – الاشتراكي – الاجتماعي، كما بين ذلك الصعيب حسن (2022، مرجع سابق). وهو ما يعني أن تنظيم العمل والمجتمع لم يعطي الأهمية ولا الأسبقية للعدالة الاجتماعية، وإنما كان/ ولا زال في خدمة “سلطة التقنيين – المتخصصين/ الأرستقراطية المكتبية”، سيطرة المهندس. وهو ما يعني انحسار “المجال السياسي” و”مجال التفاوض”. وأصبح حكم الناس موكول لإدارة الأشياء، أي تبخيس السياسة والديمقراطية، وهو ما عبر عنه الصعيب بـ”حد الديموقراطية” في النموذج اللينيني.
وقد لاحظ إدغار موران أن العولمة ليست فقط التي ألغت المكتسبات الاجتماعية لما بعد الحرب في أوروبا، بإزاحة عدد كبير من الصناعات المدمرة لفرص الشغل، ولا الانسياق نحو الإنتاجية مَنْ عطّل المقاولات، بتسريح أعداد هائلة من المستخدمين والعمال، وإنما – أيضا – عَجْز الأحزاب لتمثيل “جمهور الشعب العريض” وبلورة سياسة تجيب عن التحديات الهائلة المعاصرة (إدغار مورن 2022). وهو ما يعني الدعوة إلى يسار شعبي ولإعادة الاعتبار للممارسة السياسية، عموما، ولأهمية التموقع المستجد لليسار، فيها، وبالضبط في قلب “اليسار الكامن” (ص.م، 2022) والحراك الشعبي، خصوصا (ابراهيم ياسين، 2022).
ومعلوم أن ما يميز الماركسيين هو تركيزهم على علاقات الإنتاج، بما هي علاقات اجتماعية – تاريخية. فليس الرأسمال “كمية” وإنما “علاقة اجتماعية” تقف على درجة وشكل محدد من قوى الإنتاج الاجتماعية. وإذا كانت الرأسمالية ذات طابع استغلالي ينطلي على درجات تطور وأشكال مستفحلة من تطور نمط الإنتاج المسيطر – عبر الولايات المتحدة (وأوربا والصين وروسيا…) أو “التابع – الوكيل المحجوز”، ضمن تشكيلة اقتصادية واجتماعية محددة – تاريخيا – والواقف على مستوى محدد من قوى الإنتاج، فما يهم أكثر فهو علاقات التوزيع (الأولي والثانوي) القائمة على علاقات إنتاج ومؤسسة على صراع طبقي وعولمة وعلى جميع الأصعدة (ليبرالي متوحش أو ضابط لآليات السوق الرأسمالي الليبرالي عبر الدولة…).
وقد قدم بتلهايم شارل عملا جبارا في التحليل الماركسي للاتحاد السوفياتي، سابقا، بعنوان صادم حينها: الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي (3 أجزاء بدار النشر ماسبرو – سوي (1982))، وهو ما يعني جدارة المقاربة المنهجية الماركسية في التحليل الموضوعي لبنيات وسلوكات القادة والدولة والاقتصاد والمجتمع، دون مواربة كانت! والاستمرار في نقض الرأسمالية وقد آلت إلى البيروقراطية والافتراس والتوحش، اليوم، بعد البارحة (الاستعمار، الامبريالية…).
لم ينبهر شارل بيتلهايم أمام الصعود الثوري للاتحاد السوفياتي، سابقا، وإنما تساءل عن طبيعة النظام السوسيوقتصادي والسياسي لحقبة بكاملها، تمتد من 1917 إلى 1941؛ وعن ما إذا كانت تخفي الدولة – الحزب، آلة بيروقراطية جهنمية، وليسائل واحد من مفاهيم الماركسية الأساسية – الصراع الطبقي – في بلاد لينين وستالين وتروتسكي، وغيرهم. إنه حاول أن يستشف “عقلانية” ما في “اللاعقلاني” (فايجلسن كريستيان، 1985). والحال أن ما كان قد أخص به من “انسجام” في الثورة (1917)، الحقبة الأولى (1917-1930)، سرعان ما تبين له، في آخر التحليل، الحقبة الثالثة / الكتاب الثالث (1930-1941) “نوعا خاصا من الثورة الرأسمالية”.
ومن خصائص التشكيلة الرأسمالية التي تكرست طوال الحقبة التي درسها: انتزاع ملكية الفلاحين، تجنيد الطبقة العاملة، العنف الجماعي، تعميم الإجارة، بموازاة تراكم هائل للرأسمال، وكذا تكثيف الصراع الطبقي. ذلك أن الأطروحة التي دافع عنها بتلهايم في 3 أجزاء من كتابه الضخم، تعترف على أن ثورة أكتوبر ضرورة داخلية، لكن لم يلبث المشروع الأصلي للثورة أن انحرف، ومن تم أصبح من الضرورة المعرفية تغيير سؤال/ مكانة الصراع الطبقي في النظام.
ومن علامات هذا التحول المنهجي إدراج مفهوم “السيطرة/ المُسيطر عليهم” في التحليل، في الحقبة الثالثة من المؤلف، عوض الحديث عن مفهوم “الجماهير الشعبية”، قبلئذ. كما انه رصد انزلاقات وقطائع في النظام السوفياتي إلى نظام “رأسمالية الدولة” وسجل الصعوبات التاريخية التي سقط فيها “الحزب – الدولة”، وجعلته يجزم بشيء من “الحذر واللبس”، حسب فايجلسن كريستيان 1985، إلى أن ثورة 1917 سمحت للبولشفيك بالسيطرة على المجتمع والدولة.
والحال أن الأسبقية التي أولاها النظام للصناعة الثقيلة وإلغاء الأثمان وأولوية الخطة على السوق وإقصاء منطق المنافسة وتهميش ضبطية السوق (خاصة مع حكم ستالين)، سمح بتقوية علاقة الإجارة، كعلاقة استغلال رئيسية لقوى العمل، مما جعل “المتطلبات الاجتماعية في قلب القرار الاقتصادي”، وأن “الاشتراكية المركزية” (شامبتر) التي تبناها النظام، جعلت من الرأسمالية الفعلية رأسمالية متميزة (بتلهايم) لم تسمح بمحورية الصراع الطبقي، في تاريخ الاتحاد السوفياتي، سابقاً.
ثم لا يمكن للعولمة ولا للسباق نحو الإنتاجية أن يجعلا الإنسانية تتوجس من الانتشار الضروري للروبوت – في الصناعة والخدمات -، بل ولا حتى أن يقضي على فرص الشغل، وأن ما حصل هو تعاظم “الحصة المعرفية” في الاقتصاد التكنولوجي – عوض العضلي – فأصبح تخزين الرأسمال الثابت قليلا، مقارنة مع العمل المكتبي. فظهرت للوجود طبقة مكتبية سائحة لا مكانية (جاك أطالي، عبد السلام المودن…) ومتجولة ومرنة ومتعددة الكفاءات ومجارية للانتقاء والاصطفاء المستمر والقاتل، وسيضعف الرهان على “طبقة كلاسيكية عاملة” قائدة للتغيير وإلى ضرورة إنتلجنسيا – نخبة طليعية وقائدة ومسؤولة ومعلنة، كما تجلى ذلك في الحراكات الاجتماعية المغربية الأخيرة (بوعزيز مصطفى 2020).
إن فئة الشباب المتعلم والمرأة المتعلمة، اللذين التحقوا بصفوف البرولتاريا المغربية، قد أدخلوا تحولا نوعيا على تشكيلتها الطبقية. فلقد أمدوا البروليتاريا القديمة بدم جديد وأسلحة نضالية جديدة، ومن ابرز تلك الأسلحة، سلاح التعليم الذي طالما افتقدته [في الماضي]، وهي المنحدرة من أصول فلاحية وحرفية أمية. إننا إذن نشهد [اليوم] ظهور طبقة بروليتاريا حديثة [طليعية] في المجتمع المغربي.(انظر ع. السلام الموذن (1990)، الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية، ص 36 عيون المقالات، المغرب).
والملاحظ أن التكنولوجيات الجديدة ومحطات التواصل/ الاتصال الاجتماعي تلعب دورا هائلا في تنظيم عمليات الدورة الاقتصادية – الاجتماعية، وتساعد على ضبط الأسواق، وتعمل – بذلك – على تغيير ملامح نمط الإنتاج السائد وتمفصلاته، إن في مراكز الرأسمال المالي أو في المحيطات، بل وستعمل على التفكيك التدريجي للمعتقدات الجمعية الجامدة – المتخلفة، أو لتحجرها…
وإذا كان سمير أمين (2015) يعتبر أن الإسلام السياسي نتاج لإجهاض الحداثة في العالم العربي الإسلامي، فإن المؤرخ مصطفى بوعزيز يعتبر جماعة العدل والإحسان، نتاج مغربي، لاعلاقة ضرورية له بإسلام الإخوان المسلمين، لكن يبقى موقف سمير أمين حاسما في ذلك، مشككا في إمكانية أن تسلك الحداثة طرقا أخرى غير غربية، وفقط انطلاقا من التحول الداخلي للثقافات المحلية الغير الأوروبية:
يعد هذا سؤالا رئيسيا في إفريقيا، سؤالا موسوما- ضمن أشياء أخرى- بحضور وازن للإسلام- فعمل على تعريف الحداثة، وهي مرادف للعقل التحرري، مع الإعلان عن حق الشعوب في تجاوز ” تقاليدها” وخرقها، الشيء الذي يستوجب عملية الحياة الاجتماعية ويحدد ظهور الديمقراطية وانتشارها. في هذا الإطار، حلل مسار أوروبا التي سلكت هذا النهج، لكنها تصطدم بحداثة محدودة وناقصة لارتباطها بظهور الرأسمالية. وبين كذلك بأن العالم الإسلامي لم يرق بعد إلى مستوى التحدي وأن الإسلام السياسي هو نتاج هذا الإجهاض للحداثة أكثر منه جوابا ناجعا للتحدي الذي يمثله، كما يدعي ذلك(انظر سمير أمين(2017)، الحداثة والتأويلات الدينية، ص 3 منشورات الأفق الديمقراطي، المغرب).
كل هذا سيضع الممارسة السياسية – اليسارية – التنويرية على محك متتالية “الجدل واللوجستيك والتكتيك”، مما أشار إليه خ.أ، لإحقاق موضوعي عادي مستحق وكاشف لقيم التنوير والعدالة والحرية والإنصاف والمساواة (…).
هكذا سيكون لتلك الإنتلجنسيا/ القيادة وقد استنبطت تميز ممارستها ووعيها الملموس بتناقضات العولمة وتمفصلها مع بنيات التأخر والتخلف أن تعمل ببوصلة/ وضوح من اجل “عالم أفضل”. والحال أن من أهم ما يمكن وراثته عن ماركس هو التحليل النقدي – الملموس – المسنود بمفاهيم كونية لأسس الهيمنة الرأسمالية، وما يفيد لتحليل خصوصية مجتمع ودولة المخزن الاقتصادي، وكذا استثمار وتوزيع نبل “اليوتوبيا” للمجتمع الإنساني الممكن (ماركس، غرامشي، الصعيب، خ.أ،…)، ولرسملة المبادئ العامة لهذا الفكر المعاصر، لإنعتاق الشعوب والجماعات والأفراد المقهورة !! وان تنتج أحزاب ومنظمات اليسار اليوم – المجتمع المدني – كتابها/ مشروعها الخاص والراهن للعمل “ما العمل” اليوم؟