الخلدونية، مُعَاصِرة، أنموذجا للممارسة التاريخية- الاجتماعية- السياسية-الإبدالية (تعريجة على مشروع مدونة الأسرة للمغرب ( 2004-2024)ذ.عبد الواحد حمزة[1]
I-الجزء الثاني/من الطرح القانوني- الشرعي إلى الطرح السياسي للإشكالية الاجتماعية للأسرة
قدمنا في الجزء الأول السياق العام للخلدونية، بما هي بحث علمي في أسباب ازمة التطور التاريخي الاجتماعي للمغرب /المغارب ، وطرحنا في ذلك فرضية وأسئلة تدور حول المرور/ التحول الممكن من الوطنية المتجددة، آخر اقتراح لمراكز البحث والدراسات للقوى الوطنية الديمقراطية المغربية ، على أن نحاول في هذا الجزء الانتقال/التحول من طرح قانوني – شرعي محدود، رغم أهميته، إلى طرح سياسي شامل، أنموذج متجدد، نعتبره الحجر الأساس في ما نحاول أن نستشفه من براديغم ملائم للوضعية المركبة للمغرب/ المغارب اليوم.
أمام الأزمة الحالية للمرجعيات الفكرية التي اعتدنا اعتمادها في مرحلة ما قبل العقدين الأخيرين من القرن الواحد والعشرين، اتضح تأزم الأفق الفكري والبرنامجي والسياسي للعالم وللشعوب التواقة للتحرر والتقدم، بموازاة تأزم الاقتصاد العالمي وقواه المهمينة، والتحولات السياسية العسكرية الإقليمية والعالمية، لتصعد للواجهة مفاهيم من نوع اللايقين،..إلخ . والحال أن قوانين التاريخ والمادة والاجتماع البشري بإمكانها أن تساهم في فهم واستبصار الواقع الاجتماعي والسياسي المغربي والعالمي وآفاق تطورهما.
لقد استنفذ ” البراديغم المتسلط ” أغراضه، وأصبح حاجبا للواقع، معيقا للحركة، فبين كشف علمي وآخر، رهق كبير، ولكن لحظة تولد الكشف مدينة لتمرد العقل الناظم، وليس للعقل المنتظم المحروس، العقل الفاعل الذي يقر للنموذج، ولكنه لا يفعل ذلك من دون شرط، والشرط هنا يقرره حدسنا العظيم، الحدس لا يسلم للبراديغم، بل هو من يدرك لحظة الصفر التي يجب فيها تغيير قواعد الاشتباك في المعرفة، لأن الحدس موصول بالوجود، وهو الحبل الوحيد الذي يصل المعرفة بالوجود، فالمعرفة إن كانت هي الوجود، فالضامن هو الحدس العظيم[2].
إن طرح مسألة مدونة الأسرة هو طرح لإشكالية الأسرة، وللأبعاد المجتمعية، برمتها، الاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية والعقدية لعلاقة الرجل بالمرأة، بالذات، في ما هي خلاصة مميزة ومكثفة تاريخية لعلاقة الإنسان بالإنسان. وكثيرا ما تعطى الأهمية للبعد العقدي للعائلة، خاصة لدى المحافضين، كأساس لكل الأبعاد المجتمعية الأخرى.
I-1)الوطنية المتجددة أو جدوى” الوطنية الخلدونية المعاصرة”
يرى عالم اجتماع والتاريخ أن”حقيقة التأريخ خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال من التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم عن بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”.[3]
من يقرأ هذا النص قد يعتبره لعالم اجتماعي معاصر كدوركايم أو بورديو أو لمؤرخ حديث كبولانيي. إنه -يا سادة- لعالم اجتماعي ومؤرخ مغاربي للقرن 15 : ابن خلدون، حيث العلاقة الاجتماعية لكل علاقة عمرانية، أكانت للأسر والعائلات أو الدول، هي في الحقيقة علاقة معقدة، تترابط فيها علاقتان أساسيتان: علاقة البشر بالعالم، وعلاقة البشر بعضهم ببعض، الأولى تحدد الثانية، والعكس بالعكس، لكن الواضح في النص الخلدوني هو أن الثانية علاقة تغلب، عنها ينشأ الملك وتنشأ الدولة. إنها في تعبير آخر، علاقة سيطرة، هي التي تولد الملك والدولة، بحسب منطق الضرورة في آلية العصبية[4].
ونحن نحاول إعطاء معنى لما تؤول إليه الأمة المغربية والهوية والأسرة، لا يسعنا إلا أن نتساءل عن تشكل الدولة والهوية الوطنية، مستعيرين سؤال ابن خلدون: كيف تتكون الدول، معتبرين أن هاتين الأخيرتين ليستا أقل أو أكثر من “سفحي جبل واحد”، حسب تعبير محمد عابد الجابري[5].
ما يشفع لتنظير خلدوني في قالب جديد هو أن الخلدونية لم تنشأ في أرض الغرب المسيحي- العبري، وبإمكان اعتمادها، تجديدا للنظر وتأصيلا للبراديغم الاجتماعي- السياسي- الثقافي لبلدان الشرق وللمغرب. ذلك أن إيف الباحث التاريخي الجغرافي لاكوست – ولد في المغرب / منع من الدخول إليه على عهد الملك الحسن الثاني خمس سنوات- رأى أنها لم تنشأ، كفكر، في أحضان الغرب وفي حوليات مدرسة هيرودوت الغربية في مبحث التاريخ.
لقد أطلقت 7 مؤسسات فكرية وطنية مبادرة ترمي إلى الانتقال إلى مغرب المواطنة المتجددة والارتقاء إلى الدولة الديمقراطية الحديثة. وقد سبق ذلك إعداد ندوة تمهيدية لإطلاق حوار وطني شامل[6]. وكان الهدف منها إرجاع الثقة بين المجتمع والمؤسسات وصيانة مبدأ التشاور والحق في الاختلاف والتعدد، لتجنب حالات التشنج والتطاحن والتوتر والعزوف الانتخابي وتبخيس دور الوساطة الحزبية بين الدولة والمجتمع، على أساس تعاقد اجتماعي جديد.
ويمكن اعتبار الخلدونية، بما تعنيه من عمران واجتماع وديمغرافيا ورأسمال بشري وتكنولوجيا وإنتاجية، ضد كل “مالتوسية”، وضد كل سياسات المجاعة والحروب والتفقير، وتدمير العائلة والحد من النسل ومن مدى الحياة. وعليه، لقد لوحظ منذ سبعينات القرن الماضي في المغرب نهج سياسة تخطيط عائلي موازي لبناء سدود تعطي أسبقية للفلاحة التصديرية، ضدا على سد الحاجيات الداخلية. وستكون هذه السياسة استكمالا لمالتوسية استعمارية تسمح باستغلال الأراضي الخصبة والمياه، تكريسا لسياسات بدأتها مع توصيات سايس بيكو، وكرستها مع علامات الاستعمار الجديد، قريب الاستقلال السياسي لبلدنا / 1955، ولازالت تتبع نفس الاختيارات(انظر الخطاب الملكي الاخير ).
لقد لوحظ ايضا التحضير لورش المدونة/ 2024 بسرعة كبيرة، عبأ لذلك بتحريك مجموعة/ جوقة من المدونين- اليوتوبرز ( فسحة، تحفة، زهراش، الرمضاني، العذراوي،…) وتعيين أعضاء لجنة لا قيمة علمية- ثقافية كبيرة لها[7]، وهيآت ملفقة هجينة للاستماع، قليلا ما تعلم بعمق موضوع الأسرة على مستوى السوسيولوجي – النفسي- التاريخي-الأنتروبولوجي والفكري….، تكرم العائلة وترفع من قيم النخوة والكرامة والشكيمة، والوعي والثقافة والعفة…،للمغاربة، سرع من ذلك فاجعة زلزال الحوز، دون اكترات حقيقي بمصير عائلات تحت الأنقاض، إلى اليوم، سرعان ما تم التغاضي عن حيثياته( قروض، أرصدة لمواجهة الكوارث الطبيعبة، مساعدات دولية، وعود بإعادة البناء واحسن،… ).
لو تأبط أحد “رجال الدين” بموضوع مدونة الأسرة لتحدث عن “أبواب الصلاح” و”محادي الفلاح”. ولو تأبط أحد فقهائنا من أمثال علال الفاسي وأبو بكر القادري وعبد الله كنون وحتى محمد بوستة، مدبج / رئيس لجنة مدونة 2004 بنفس الموضوع، لطرحوه على مستوى “الشريعة” و”قواعد الدين”، ليتحول الوعظ والإرشاد من يد الفقهاء والعلماء والأئمة الأنحاح(تداعيات حرب الجمل الأولى التاريخية) إلى ما هو عليه اليوم، شيوخ و” مخربين وفتانين” معاصرين (حرب الجمل الثانية؟ !بمن فيهم “دعاة التقية العلمانية” والإسلامويون، على طريقتهم، ومساهمتهم في التضليل الإيديولوجي على الموضوعات والإشكالات الحقيقية لبلادنا، خاصة السياسية منها، ( انظر أيلال، عصيد…)، وما يترتب على ذلك من الاخفاء والدلس على الطرح الضروري لإشكال السلطة والحكامة والحكم في المغرب (إشكالية فصل السلط، إمارة المؤمنين…).
وهو ما يستدعي الموقف/ المفهوم القانوني – السياسي- الفلسفي – الثقافي حول براديغمات متساوقة ومتنافسة، كالعصبية والطاعة والتعادلية، وتحصين العائلة، و ” الوطنية- الإنسية المغربية” والكرامة والمساواة والمناصفة والتحديث والعدالة الاجتماعية (…)، إلخ، وهو ما يعني حدود البحث في طبيعة العلاقات الاجتماعية عامة والأسرية خاصة، أي قراءة/رأي سياسية لمآل مؤسسة اجتماعية/ الأسرة، قبل أن تكون دراسة قانونية، وبالأحرى شرعية دقيقة، خارجة عن قصدنا واهتمامنا.
والحال أن مشكلهم، جميعا، “كهنوت جدد” و”سلف قدامى”، أنهم يضلون حبيسي الماضي ومكبلين بمرجعيات جامدة وايديولوجيات نخبوية قاتلة. ولهذا نضع هاته القراءات جانبا، لأنها أولا، حددت سقف موضوعها وطموحها، الجانب الفكري والجانب السياسي، من مجموع المعيقات الفعلية للتغييرالسياسي/ المجتمعي، ككل؛ ثم، لأن “معادلة الفقيه والسياسي” تدخل، بشكل او باخر، ضمن موضوع الفكر وإكراهاته، في معناه الشامل والواسع[8]، ولئن دخل الشرع، أو الدين في حقل ما يسميه ابن خلدون ” العمران” أو التاريخ، كما هو واقع الأمر في كتابه ” المقدمة”[9]، فكأمر عمراني، أو تاريخي ، مادي، ليس الا، لا كأمر غيبي أو إلهي، وينظر فيه، حينئذ بعين العمران وقوانينه، لا بعين الدين ومبادئه، أو بعين الشرع وأحكامه. فلمسائل الشرع منطقها ولمسائل العمران والتاريخ منطقها. ولا يصح في المعرفة الخلط بين المنطقين(انظر م. عامل، مرجع سابق).
لقد اكتشف ابن خلدون في علم السياسة قانونا نوعيا للدولة، وليس قانونا كليا وشموليا لها، وهو قانون جزئي في الدولة وفي دعائمها، أهمها ” العصبية” كمحرك للتاريخ. إن هذا القانون يفسر شكل دولة تمثل مجتمعا تسود فيه بقايا خصائص الطور القبلي، أهمها ” الصراع القبلي”، بالرغم من أنه أصبح جزء من طور قومي، اليوم. وهو الشكل الذي لا يزال يحتفظ بالخصائص القبلية، بشكل او باخر، في المجتمعات المتخلفة.
وعليه فهو لم يكتشف قانونا شاملا للدولة، أي لم يكتشف كل أشكال الدولة الزمكانية. وبالتالي فإن هذا شكل للدولة، الذي اكتشف ابن خلدون قانونه، قد تجاوزه التطور الاجتماعي، في كثير من المجتمعات ، نتيجة اكتمال تكوينها، وتجاوزها بقايا خصائص الطور القبلي،ويسود فيها الصراع الطبقي/ العولمي، وظهر فيها شكل جديد للدولة، وهو بالذات الدولة الوطنية أو القومية، التي لا تتأسس على علاقات الانتماء القبلية الضيقة، وإنما على علاقات الانتماء الوطنية والقومية الأكثر شمولا[10]، ذلك أن الدولة ضرورة اجتماعية وليست ضرورة دينية، كما يؤكد ابن خلدون، بحيث لا يمكن لمجتمع ما، أن يوجد بدون دولة، بصرف النظر عن دينه، إذ لابد للناس من إمارة، أكانت بارة أو قاهرة، كما يقول علي بن أبي طالب
وهو ما جعل بعض البحاث الدفع بمفهوم / “قانون الفراغ”، لتفسير كيف تقوم الدول والجماعات وكيف تنهار، باعتبار “عوامل لامادية”، من الممكن ان يكون ابن خلدون قد همشها او لم يوليها الأهمية الكبرى، والحال أن تحليلات ابن خلدون تحليلات موضوعية، مادية، تاريخية، وان عالجت عالم الأفكار….،..ذلك أنه لما يتوقف التجديد والمراجعة واسترداد المضامين الضاءعة، أو لا يتم الاعتناء الا بالواجهات والهياكل دون الروح، تكون بذلك الجماعات والدول قد دخلت في صيرورة تاكل المحتوى. هكذا، فقانون الفراغ هو الوجه الآخر لقانون العصبية، يبحث في العلل الخفية ،” غير المادية”، حسب قول ك. الصغير، وراء قيام المؤسسات وانهيارها، وهو الجامعي المغربي المعاصر الذي قدم في كتابه الاخير، حول ما لم يقله ابن خلدون، عن مركز مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة/ مصر، اسداء معالجة تطبيقية في المفهوم، فضلا عن النظري فيه، بدراسة حالة تاريخ الإسلام واتساع رقعته ورقعة دوله، شرقا وغربا، الى حدود سقوط الدولة العثمانية، وذلك لاستيعاب تحولات الزمن التاريخي.
انه بهذا لا يعتبر انه يقدم نقدا لابن خلدون، وإنما توضيحا ووثيقة ثقافية لعتمات لم يوليها ابن خلدون الاهتمام الكافي، وهو بهذا يحاول اكماله، لأن ابن خلدون ومجايليه لم يتصوروا قط أن تقوم الدول دون دعوة دينية او قبلية، وسيعمل قانون الفراغ على إضاءة المساحة الرمادية للبناء الخلدوني، العصبية، اساسا، لبرقى به إلى المستوى القطري، وهي دينامية من الضروري الإلمام بها لفهم ما يجري من تحولات راهنة، قصد بناء نموذج جديد ملاءم.
ولهذا فهذه الدينامية تمثل العلة الخفية لكثير من التحولات المجتمعية، ما وراء ودون “الأسباب المادية الصلبة المشاهدة” ، حسب تعبير كمال الصغير[13] ، لقيام المؤسسات وسقوطها، بحيث أن ما اعتبره ضد العمران، بمحتواه الثقافي والديني والاجتماعي والحضاري هو التخريب والخراب والفراغ من أي محتوى.
كما أكد كمال الصغير أن الفراغ قوة كامنة، فهو نقطة الصفر السابقة للعصبية، إذ قبل أن تنشأ هذه الاخيرة، فإنها تحتاج إلى جغرافيا فارغة من الكثافة العصبية والايديولوجيا تنشأ فوقها، تضعف، تحدث فراغا وتستعد لاستقبال عصبية صاعدة. فالفراغ المستحدث يقلص مجال الدولة ويفرغ الاطراف، ليسمح لقوى جديدة الزحف نحو المركز للسيطرة عليه.
وأعطى الصغير مثالا على ذلك، مؤكدا على أن ت أحه الإسلام السياسي لا يمكن فهمه بالفشل في إدارة السلطة، وإنما وإلى تأكل دينامية المحتوى والفراغ…، وذلك انسجاما مع انفتاح المجتمع على التدين باستقلالية مع تعدد قنوات الاعلام و تعدد الخطابات وانتشارها.
ول وهو ما يعني ضرورة تقويم الخلدونية تقويما علميا حتى تسع وتقاوم الحكومات الفوق- الوطنية (امبريالية- استعمار ما بعد الكولونيالية…) لتسمح للشعوب الصاعدة بوضع قدم في العالم المتجدد وعالم المواطنة الضرورية. لازال هناك مقام للمقاومات ضمن الجغرافية السياسية العالمية، مكان لعصبية الدول، كأساس لقوتها وأساس التغلب الذي هو أصل الرئاسة، قتالا وتفاوضا، فضلا عن دعامات الفضيلة والدين والأخلاق، وضرورة انحطاط الأمم، كل الأمم، تاريخيا بعد صعودها.
شكلت الوطنية المغربية موضوعا لكبار الباحثين الأجانب، قبل أن تحظى باهتمام المغاربة الذين اشتغلوا على تحليل سياقات بروزها في التاريخ الحديث، وعلى تفكيك مضامينها ومكوناتها ومصادرها، والوقوف على رموزها ونخبها وتياراتها، ومتابعة امتداداتها ومآلاتها وتأويلاتها في مغرب ما بعد الاستقلال. تنوعت هذه الأبحاث بين حقول التاريخ والفكر والأنتربولوجيا والسوسيولوجيا وعلم السياسة(…) وما يعرف بكتابات الفاعلين[11].
وإذا كان لابد من الرجوع إلى سياقات التأسيس للوطنية المغربية ومعالجتها كأفق للتفكير في ظل سياقات التحول، فلا مناص اليوم من التفكير فيها وسط “مشهد عالمي مفارق”[12]، خاصة أن الوطن الترابي المغربي تحف به إشكالات من كل حذب وصوب، يرتبط المفهوم بتمثلات النخب المغربية المتعاقبة خلال القرن التاسع، وخاصة مع توسع الحركة الاستعمارية الغربية داخل إفريقيا ما وراء الصحراء، كالاستيلاء على الجزائر سنة 1980، مما دفع المغاربة إستحضار منطق الحدود والقارة، والوعي بذلك، نسبيا، فموضوعة التراب المغربي/ الأمة المغربية والشعور الوطني المتنامي، إذ لازال شأن تحرير الصحراء الغربية- المغربية، وكذا الشرقية، من موضوعات التوجه الإصلاحي التحرري الوطني المغربي.
فهل يمكن عزل الأسرة عن باقي النسيج الاجتماعي المغربي والاكتفاء بإصلاح نص وحتى واقع العائلة، اعتمادا فقط على إصلاح تلك المدونة (2004-2024)، ومن ثمة إعفاء مساءلة المجتمع برمته، وعلى كل المستويات، وكذا الدولة – جميعها- مسؤولية التحديث والإصلاح، علما أن العائلة هي نواة الكل؟
لكن هل يمكن الحديث عن أنوية متعددة للأسر، حتى أن بعضهم يتحدث عن “مدونات”، عوض مدونة واحدة، مدونة “طبقية”، واحدة للأحرار وأخرى للعبيد! !،لاختلاف التعامل، والأثر القضائي والاجتماعي والسياسي الفارق مع النصوص القانونية، تنزيلا وتنفيذا وتأويلا ؟.
كما أن الأسر تجد لها امتدادات في هياكل الدولة – المخزن، حيث عائلات محدودة، وأصبحت معروفة كما وكيفا، بعينها، تستأثر بالحكم وتستفيد من القرب من مركزه ( جيزات، قرابة صداقة، نسب، تداخل مصالح، ….) وتشبك حبال السلطة والنفوذ والمال،لإعادة انتاج نفس النظام، أكان- للمفارقة- في المجتمعات الديمقراطية- نفسها- أم في البلدان المتخلفة بالخصوص، حيث الفرز الاجتماعي-الطبقي لم يكتمل بما هو كافي، وزادت العولمة الزاحفة والاختلالات البنيوية للاقتصاد العالمي منذ 2008، خصوصا، وأثر أزمة كوفيد 19 على النسيج الاجتماعي الاقتصادي،من تشتت تشكله البنيوي الوظيفي، حتى أن هناك من يتساءل فيما إذا نحن بصدد إصلاح أم تدمير لعصب العائلة المغربية ؟ ولا يسعنا الا ان نتساءل حقا عن ما هو الأصعب، هل هو الطريق أم أن “الأصعب هو الطريق”، كما يقول كيير كيــــكراد؟
” C’est le difficile qu’est le chemin”؟.
وللتذكير، ففي حالة المغرب، فقد سبق وأن أعطى خطاب العرش لـ 30 يوليوز 2022، وبعده في 26 شتنبر 2023 في الرسالة الملكية إلى رئيس الحكومة، الضوء الأخضر بعد ركود تشريعي دام 20 سنة، وتحول مجتمعي كبير، متصيدا الفرصة لاحداث نقلات ليبرالية شديدة، ولتغيير اهتمام الرأي العام، بالذات، وما هو بــــــــــــ” وعي سياسي بالاحداث” تماما، عقب الزلزال المدمر الذي لحق بمنطقة الحوز/المغرب، ذات 8 سبتمبر من سنة 2023، بالضبط، ودون اعتبار تنموي اقتصادي- اجتماعي- شعبي فعلي، بالرغم مما رصد مبدئيا لذلك من قروض وهبات ومساعدات دولية، وليتبعه الأثر البليغ الذي من الأكيد أن يخلفه “طوفان الأقصى” في 10 أكتوبر 2023، وارتداداته المباشرة على الوضع السياسي والاجتماعي في المغرب/ والمنطقة، وباقي العالم (التطبيع، تغيير خارطة النفوذ وحكم العالم…
وعليه فإننا لا نرى للوطنية المغربية المتجددة من عمق او أفق الا ضمن خلدونية متجددة، يأخذ فيها المستوى السياسي، بما هي عليه الملكية التنفيذية عندنا، و كما هو داءما، وليس للاقتصادي، المكانة المسيطرة وليس المحددة، في اخر مطاف التحليل الشامل.
واذا سبق وأن هادنت الحركة الوطنية المغربية الاستعمار الفرنسي باعتماد اتفاقية اكس ليبان، مؤسسة بذلك لاطار قانوني استعماري جديد لازالت تبعاته ممتدة الى اليوم، فإن تجديد الوطنية المغربية لا يمكنها أن تغازل استقلالا منقوصا، ولا يمكنها الا ان تكون مناصرة للسيادة الوطنية لبلدنا على جميع المستويات، وأن تحركنا في كل ذلك “عصبية” وطنية وغيرة حقيقية، نابذة للعنف ومفضلة للحوار، ممانعة وقوية ومستقلة….على خدمة مصالح كافة الشعب المغربي.
واذا كان لنا أن نعالج مدونة للاسرة المغربية، باعتماد منهجية خلدونية معاصرة، فلا يسعنا الا ان نتساءل ما اذا يعرف بلدنا اليوم طورا تأسيسيا
لأهم وأكبر نواة مجتمعية فيه، ام أن علامات الانهيار والهجانة تتربص به من كل جانب، ونحن نعلم ان الحركة عنصر مانع للتاكل، وفقط لما يتوقف التجديد، تكون الدول قد دخلت في صيرورة التأكل لكل مستويات محتواها، فيسود التقليد والجمود والتنميط والتقديس ويغيب الاجتهاد واحترام الاختلاف…؟.
[1] – عضو مختبر بحث الضوابط الاقتصادية والذكاء الاستراتيجي، (Reis)، جامعة الحسن الثاني، البيضاء. وهو عضو أيضا بمركز بنسعيد أيت إيدر للأبحاث والدراسات (Cerm)، البيضاء
[2] – إدريس هاني (2024)، ” العقل المجرد أم النخاع الشوكي”، تدوينة في حائط الكاتب.
[3] – انظر مهدي عامل، في علمية الفكر الخلدوني، مذكور سابقا، ص 20.
[4] – نفس المرجع ص 21.
[5] – محمد عابد الجابري” الاعتزال…. وهوية الدولة الأولى في المغرب”، مقال مذكور في كتاب حسن طارق، الوطنية المغربية… 2023.
[6] -المؤسسات السبعة هي مركز بنسعيد أيت إيدر للدراسات والأبحاث ومؤسسة علال الفاسي ومؤسسة علي يعتة ومؤسسة عبد الرحيم بوعبيد ومؤسسة محمد عابد الجابري ومؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة ومؤسسة محمد حسن الوزاني للديمقراطية والتنمية البشرية، فضلا عن أكاديمية المهدي بن بركة ومؤسسة عبد الهادي بوطالب.
[7] – انظر مفكرين مغاربة وازنين تمت تهميشهم كـ عبد الله العروي، والمصطفى بوعزيز، ومصطفى القادري، ومحمد المنوني، والمعروف الدفالي، ولطفي بوشتنوف، وبرحاب عكاشة …. وآخرين في مجال التاريخ، وكذا علي أومليل وسعيد بنسعيد العلوي وعبد الإله بلقزيز، وعبد القادر الشاوي، وحسن أوريد، عبد السلام الحيمر، وآخرون في مجال الفكر وحسن رشيق، مثلا في مجال الأنتروبولوجيا وفاطمة أيت موس والخطير أبو القاسم في مجال علم السياسة وعثمان أشقرا في مجال السوسيولوجيا، إلخ…
[8] -مهدي عامل، في علمية الفكر الخلدوني، (1986)، لبنان.
[9] – ابن خلدون، المقدمة، دار النشر: المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.
[10] – صبري محمد خليل (2024)، مقدمة ابن خلدون: النظرية السياسية عند ابن خلدون، قراءة منهجية.
[11] -حسن طارق، الوطنية المغربية تحولات الأمة والهوية، ص 102، المركز الثقافي للكتاب.
[12] – حسن طارق، ص 23، نفس المرجع.
[13] -كمال الصغير، ما لم يقله ابن خلدون، مركز مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، مص، 2024.