وجهة نظر

التعليم بين دوامة الفشل ومشاريع الإقلاع -ذ.عبد الكريم الرطابي

                    صرح وزير التربية الوطنية يوم الثلاثاء 14 يناير 2025 بأن ثلثي تلاميذ المدرسة       الابتدائية في المغرب لا يتقنون اللغة العربية والفرنسية والحساب  ..

           لقد سال مداد كثير حول المنظومة التعليمية التي عرفت  فشلا ذريعا منذ انطلاق مسلسل        التعريب بعيد سنة 1984 (بعد مناظرة إفران سنة 1985 )حتى صارت عبارة (إذا عربت خربت)  تلخص بشكل بليغ ووجيز هذا الانحدار .لقد وصلت المنظومة التعليمية إلى النفق المسدود .

ولم تعد المدرسة المغربية تؤطر التلميذ معرفيا وأخلاقيا ووجدانيا .ولم يعد التلميذ قادرا على استيعاب المقررات التعليمية ،بل إنها تساهم في نفوره من المدرسة. فهل لا زالت هذه المؤسسة تقوم بوظيفتها التربوية/ التعليمية وتساهم في التنشئة الاجتماعية المنشودة ؟وما هي النواقص ؟وأين تكمن الاختلالات ؟ 

  وبدوري سأدلي بدلوي في مجال قضيت فيه ما يفوق ثلاثة عقود داخل القسم أعانق الطباشير    رفقة أجيال كثيرة من المدرسين والمتعلمين.ورأيي  حول الموضوع يبقى رأيا شخصيا. فهو لزمني     بمفردي.وستتمحور المقالة حول عنصرين اثنين.          

           ا – أسباب فشل المنظومة التعليمية .

          ب- مقترحات عملية تساهم في إنجاح  المشروع الإصلاحي

        ا- أسباب الفشل   

تداخلت عوامل عديدة لتجعل منظومتنا التعليمية تنحدر إلى الهاوية. لن أتحدث عن العنصر       البشري(المدرس) الذي يعتبر محوريا في إنجاح أي مشروع تنموي أو نهضوي. فهذا الموضوع        يتطلب بحثا عميقا.لقد وصل التعليم إلى الدرجة الصفر، ولم تعد المدرسة تؤطر التلميذ (مواطن        المستقبل)،كما أن الأسرة انسحبت ولم تعد قادرة على أداء وظيفتها التربوية والأخلاقية.                  

– سأركز على المرحلة الابتدائية لأنها الأرضية التي يتشكل في حاضنتها نمو وتفتح المتعلم .

 لا شك أن أسباب الاختلالات هيكلية تبدأ مع التحاق التلميذ بالمدرسة الابتدائية . فالمنطلق     البيداغوجي  الذي اعتمدت عليه العملية التعليمية هو الانطلاق من الكل إلى الجزء حتى صار    المتعلم يكرر  (يحفظ) الجملة دون الإلمام بمضمون عناصرها .

  كما أن هذه المرحلة الابتدائية تتسم بسيطرة الكم على الكيف وذلك راجع إلى كثرة المكونات     التي تعصف بالمضامين .هي مكونات تعليمية كثيرة . يكون الأستاذ ملزما بتمريرها إلى المتلقي (التلميذ) في وقت وجيز ولا يرحم .ففي كل حصة (صباحية أو زوالية ) يجد الأستاذ نفسه مضطرا إلى الانتقال بين مجموعة من المكونات التعليمية التي تعددت عناوينها بدون فائدة .كما أن عامل الوقت يضغط على الطرفين .

  ضغط هذه المكونات يتجلى في الدرس اللغوي حيث يجد المتعلم نفسه مطالبا بدراسة  وتمثل مكونات الدرس اللغوي من نحو وصرف وأساليب مثل النداء والتعجب والتفضيل والمدح  والذم . وكمثال على هذا الشحن الغريب لا يكتفي تلميذ المرحلة الابتدائية بفهم وضبط النعت المفرد والحال المفرد ،بل يكون مضطرا إلى  دراسة الجملة النعتية والجملة الحالية مع ما تستدعيه من عسر في الفهم والتباس في التمييز بينهما .

 والسؤال المشروع الذي ينبغي أن يطرح بكل جرأة هو ماذا يستفيد المتعلم من هذه الأساليب في المرحلة الابتدائية؟ ما الغرض من هذا الحشو ؟

 فلا يمكن للتلميذ في مرحلته الابتدائية أن يلم بجميع مكونات الدرس اللغوي عن طريق شحنه بجميع قواعد اللغة العربية .  غياب أنشطة تنمي ملكة الحفظ عند التلميذ (أناشيد ،محفوظات. وقد سميت كذلك لأنها تحفظ ) غياب أنشطة يدوية عملية وترفيهية (ألوان  رسوم  تشخيص … )  كما نسجل غياب التربية البدنية في جميع المؤسسات الابتدائية المغربية نظرا لغياب فضاءات خاصة تسمح بممارسة هذه الأنشطة ..    

مقترحات بشأن الإقلاع  

 إن إصلاح المنظومة التعليمية المغربية لا يمكن أن يتأتى إلا انطلاقا من البيئة المغربية في تعدد  روافدها اللغوية والثقافية وتعدد مجالاتها الجغرافية وتعدد هويات ساكنتها. ولا يستقيم الإصلاح إلا بإشراك الباحثين المغاربة.وأقصد هنا المنظرين ورجال التربية الذين لهم إسهامات أكاديمية محترمة في صياغة النماذج التربوية التي يتلقاها الطلبة والأساتذة في مراكز التكوين ،كل في مجال تخصصه (علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية…)   يبدأ الإصلاح من الأساس.والأساس هنا هو المرحلة الابتدائية حيث ينبغي للتلميذ أن ينهي مساره التعليمي وقد اكتسب ثلاث مهارات أساسية هي مفاتيح تساعد على بناء شخصيته من جوانبها العقلية والحس-حركية والوجدانية .

في هذه المرحلة يتدرج المتعلم في اكتساب ثلاث مهارات 

  1- المهارة الأولى مهارة القراءة وتعني أن ينهي المتعلم مساره الابتدائي وقد أتقن مهارة القراءة (اللغة- اللغات ) .وتوزع هذه اللغات وفق مستوى التلميذ .ففي المستوى الأول (في غياب الأقسام التحضيرية) يكتفي التلميذ بلغة واحدة. وفي المستوى الثاني والثالث والرابع والخامس تضاف لغة  ثانية إلى رصيده المعرفي ،على أن تضاف لغة ثالثة إلى ذاك الرصيد عند الصف السادس. والحوار داخل الفصل بين المربي والمتلقين هو معيار من معايير اكتساب وتوظيف اللغة -اللغات. 

 2 – المهارة الثانية مهارة الكتابة وهي مهارة تغطي سنوات التعليم الابتدائي .عند نهاية هذه المرحلة ينبغي أن يكون المتعلم قادرا على انجاز هذه المهارة باللغات الثلاثة عبر تحرير نص (فقرة- فقرات) وهي التعبير الكتابي أو الإنشاء .إنها عملية إبداع في صورته الأولى. 

 3 – المهارة الثالثة أن يتلقى المتعلم تدريجيا جميع العمليات الحسابية من جمع وطرح وضرب. وعند المستوى السادس يضاف حساب الكسور .والعمليات الحسابية يتلقاها التلميذ تدريجيا من البسيط إلى المركب ،ومن السهل إلى الصعب بدءا بالوحدات ثم العشرات فالمئات فالآلاف. يتلقى المتعلم هذه المهارات الوظيفية خلال المرحلة الابتدائية مع استثمار مهارتي الحساب الذهني والحساب السريع.     للإشارة فجداول الضرب من 0الى 10تحفظ ،إذ هي القاعدة الصلبة التي تبنى عليها باقي التعلمات الرياضية اللاحقة . 

  أنتقل الآن إلى نقد المحتوى الدراسي من حيث الكم .فقواعد اللغة وزعت لتغطي المرحلة الابتدائية.هي دروس سمتها وهدفها أن ينهي المتعلم المرحلة الابتدائية وقد تلقن جميع دروس النحو والصرف العربي .فماذا يستفيد التلميذ من أساليب النداء والتعجب وأسماء التفضيل ودروس الاستثناء؟ 

 لذا أقترح أن تكون هذه القواعد وظيفية يكتفي التلميذ منها بمعرفة الأفعال وأنواعها ،ويعرف المرفوعات والمنصوبات والمجرورات من الأسماء.أما الاستثناءات اللغوية مثل ما يلحق بالمثنى وما يلحق بجمع المذكر والمؤنث السالمين وكذلك أنواع التمييز والجملة الحالية والنعتية فلا داعي لها . إنها دروس تنتظره في المرحلة الإعدادية أو الثانوية. 

 كما أن ملكة الحفظ يجب تنميتها عند الطفل منذ المستوى الابتدائي إلى المرحلة الثانوية مرورا بالسلك الإعدادي .تنمى وتقاس ملكة الحفظ عند المتعلم بشكل أسبوعي .والمكونات التي تكون قابلة للحفظ هي ( قواعد اللغة والأناشيد والمحفوظات – باللغتين – والأغاني الوطنية مثلا أو الدينية وبعض النصوص القرآنية.)  

وفي سياق النهوض بالمدرسة العمومية لتحقق الأهداف المتوخاة لا بد من تخفيف الأعباء التي تتقل كاهل الأستاذ مثل تقليص عدد التلاميذ (لا يتجاوز العدد ثلاثين تلميذا) وتقليص ساعات العمل     ( ألا تتجاوز ستا وعشرين ساعة في الأسبوع)منها ساعتان للتربية البدنية. 

 وارتباطا بالموضوع لا بد من تفعيل مكون التربية البدنية داخل جميع المدارس الابتدائية في انتظار تفعيل الأندية الرياضية باعتبار المدرسة الابتدائية مشتلا يحفل بالمواهب التي تنتظر من يكتشفها. وفي هذا السياق لا بد من تفعيل باقي الأندية مثل نادي البيئة ونادي المسرح ونادي الفنون التشكيلية.. في هذه المرحلة لا نركز على إبراز النجوم أو المواهب.بل يكتفي المربي بالتركيز على  الحركات التي تناسب أعمار التلاميذ ، اعتمادا على الأيدي والأرجل دون إجهاد الأطفال ،وإعفاء التلاميذ الذين يعانون من إعاقة بدنية أو من الأمراض المزمنة (الربو والقلب …) فخلالها يستأنس التلاميذ بالرياضات الفردية والجماعية .وخلال هذه الحصص تبدأ الميولات الشخصية عند المتعلمين في الظهور .فبعضهم لا يظهر ميلا نحو بعض المواد الصفية بقدر ما يميل نحو هذه الأنشطة الرياضية.

 ونحن نقترح هذه الأندية لا بد من الاستعانة بخريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط  الثقافي وخريجي المعاهد الموسيقية لتأطير الأندية الفنية في جميع الأسلاك التعليمية ..

   كم نحن بحاجة إلى تربية فنية وجمالية تنمي عند أطفالنا الإحساس بالجمال وتذوقه .فالفنون تهذب الناشئة وتخرجهم من حالة الإحباط واليأس والعدوانية إلى عوالم الجمال والخيال والمحبة والتسامح… والفنون والرياضات تجنب الأطفال التسكع في الأزقة بدون هدف وتجنبهم الارتماء في أحضان المخدرات .    

                                           برشيد 01/12/2023        

      

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى