ثقافة و فن

مابعد الحداثة والتراث: هل نحن بصدد براديغم جديد للتفكير في الثرات وبناء علاقة جديدة معه؟

        -حسن تزوضى :

يعرف طوماس كون وهو فيلسوف وابستيمولوجي معاصر “البراديغم” على أنه مجموعة من المفاهيم والنظريات والممارسات المشتركة التي يوافق عليها مجتمع من العلماء في فترة معينة، فهو  أداة أساسية لفهم العالم وتوجيه البحث العلمي في مجال معين، فهو يبرز  الطريقة التي يتم بها تفسير الظواهر وحل المشكلات ففي كتابه “بنية الثورات العلمية” أوضح  طوماس كون، كيف أن العلم يتطور من خلال فترات من الاستقرار الفكري (براديغمات) التي تليها ثورات علمية تُغير الأسس التي كان يقوم عليها العلم حتى تلك اللحظة، يقول في هذا السياق :” البراديغم هو ما يشترك فيه أعضاء المجتمع العلمي، إنه يتكون من الإنجازات العلمية المعترف بها عالمياً التي توفر لفترة من الزمن نماذج للمشاكل والحلول لمجتمع الممارسين”(بنية الثورات العلمية)

يشير  طوماس كون إلى أن البراديغم لا يقتصر فقط على مجموعة من النظريات العلمية، بل يشمل أيضاً الأساليب البحثية، الأسئلة التي يُسمح بطرحها، وكذلك والأدوات التي يتم استخدامها في الممارسة  العلمية، فحينما تبدأ التفسيرات والنظريات القائمة ضمن البراديغم السائد في مواجهة مشاكل لا يمكن حلها ضمن الإطار الحالي،تصبح العلوم في لحظة ازمات فيبدأ التحول إلى براديغمات جديدة، وهي عملية تُسمى “الثورة العلمية”، بهذا المعنى فالبراديغم أو النموذج الإرشادي هو الإطار المفهومي الذي ينظم ويسهم في تشكيل وتوجيه التفكير حول قضايا معينة، ويتحدد من خلاله كيف يتم تصور وتنظيم المعرفة في فترة زمنية معينة، يمكن من خلال البراديغم تحليل وتحقيق فهم أعمق للتغيرات الفكرية والثقافية التي شهدتها البشرية عبر العصور، وخاصة في ما يتعلق بالإشكاليات الكبرى، وفي هذا الاطار يمكننا أن نستعيرمفهوم البراديغم كما وضعه طوماس كون  لقراءة  العلاقة مع التراث وكيفية التعاطي معه والتفكير فيه ، ومن هذا المنطلق  يمكننا قراءة تاريخية التفكير في التراث الثقافي وتدبير العلاقة معه إنطلاقا من  نموذجين إرشاديين رئيسيين هما :

-نموذج الحداثة الذي قام على مبدأ  القطيعة مع التراث باعتباره عائقا أمام التقدم

 -نموذج ما بعد الحداثة الذي يمثل نقداً لهذه القطيعة وسعيا  لإعادة الاعتبار لهذا التراث كمنطلق للرقي بالوجود الإنساني وتحقيق التنمية المستدامة.

في إطار الحداثة اعتُبرت العلاقة مع التراث بمثابة عائق أمام التقدم، ففكر الحداثة قدم  نفسه باعتباره قادرا على ايجاد حلولا عقلانية وعلميه  للعديد من القضايا والمشكلات  التي كانت تواجهها المجتمعات التقليدية، حيث عملت الحداثة على تأليه العقل ورفض كل ماهو تقليدي باعتباره عائق  أمام التقدم والتطور، هذه المقاربة تظهر بوضوح في مقولات الفلاسفة الكبار المؤسسين للحداثة أمثال ديكارت الذي أوصى بضرورة التسلح بالعقل والمنهج والاتجاه نحو الطبيعة من أجل كشف مكنوناتها واستغلالها لأن في ذلك نفع عظيم للإنسان( كتاب مقال في المنهج)، كذلك إيمانويل كانط الذي اعتبر أن الإنسان يجب أن يتحرر من وصاية التراث ليستخدم عقله الخاص في تحديد مصيره(نص ما التنوير)، كما كان الفكر الهيغلي يتبنى فكرة التقدم التاريخي كعملية عقلانية تنطلق من قطيعة مع الماضي باتجاه المستقبل، هذه الفكرة تتجسد في فلسفة هيغل  التي ترى أن التاريخ يسير نحو افق مطلق وهو الوعي الكامل والحرية، حيث ينتهي التناقض بين الإنسان والمجتمع، يتضح من خلال هذا النموذج الحداثي أن  التراث يُعتبر مجرد ماضٍ يجب تجاوزه لأنه يمثل القيود التي تمنع الإنسان من الوصول إلى الحداثة والتقدم والتطور .

لكن مع تطور الفكر والتاريخ بدأت تظهر بعض التحديات التي طرحت تساؤلات حول قدرة الحداثة على الوفاء بوعودها، مع الفشل الواضح في تحقيق التقدم المستمر، حيث تزايدت الأزمات في العديد من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبئية ، فعلى الصعيد الاجتماعي سادت القيم المادية والفردانية والانانية وتفككت الاواصر الاجتماعية مما نتج عنه  ازمات نفسية حيث اصبح الانسان الحديث يعيش قلقا وجوديا وفقدان للمعنى ،أما على المستوى السياسي فقد انتشرت الحروب وسادت  الامبريالية والاستعمار وصعدت  الانظمة الفاشية والاستبدادية مماجعل رهان الحرية والعدالة في مهب الريح ،وكذلك على المستوى الاقتصادي فقد فشلت النمادج الاقتصادية والتنموية القائمة على صناعة الثورة ومراكمة الانتاج المادي حيث استعت الهوة بين الطبقات وساد الاستغلال والحرمان، وأخيرا على المستوى البيئي افرز الاستغلال المفرط للطبيعة ازمات بيئية وصحية تهدد الوجود الانساني كالاحتباس الحرار وانتشار الامراض والفيروسات، هذا الوضع الكارثي الذي آلت إليه الحداثة، جعل العديد من الفلاسفة والمفكرين يشككون في الحداثة والسرديات الكبرى التي قامت عليها، في هذا السياقات ،قام براديغم  ما بعد الحداثة ليهدم المنطلقات التي تأسست عليها الحداثة، فنقد ما بعد الحداثة للحداثة لا يقتصر على نقد سردياتها الكبرى، مثل الايمان المطلق بالعقل والعقلانية والتقدم والحرية ، بل يمتد إلى رفض كل الأنظمة الفكرية التي تسعى إلى فرض وحدانية الحقيقة، أو ما يطلق عليه فلاسفة ما بعد الحداثة ” الميتافيزيقا الغربية” ،فمثلا هايدجر يتحدث عن الميتافيزيقا الغربية كنسيان للوجود، أما نيتشه فهو ينظر إليها كتحريف لمسار الفلسفة والفكر الغربيين، كإنتصار”لأبولو” على حساب “ديونيزوس”.

يرى  الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في كتابه “الوضع مابعد الحداثي”  أن ما بعد الحداثة هي “نقد   للسرديات الكبرى” التي ظلت تحكم الفكر الحديث، واعتبر أن هذه السرديات لم تعد قادرة على تفسير تعقيدات الواقع المعاصر، بل أكثر من ذلك أدت إلى إخفاقات كارثية على المستوى الإنساني والاجتماعي والسياسي والبيئة،  فما بعد الحداثة تدعو إلى الاعتراف بتعدد الأصوات والتجارب البشرية المختلفة، وتبتعد عن محاولة فرض رؤية واحدة أو نموذج موحد للحقيقة.

في إطار هذه الرؤية الجديدة، تتجدد العلاقة مع التراث بشكل مختلف، حيث  لا يُنظر إلى التراث في هذا السياق كعبء أو ماضٍ يجب تجاوزه، بل يُعتبر جزءاً من الهوية الثقافية والإنسانية التي تساهم في تشكيل الحاضر والمستقبل، فإعادة الاعتبار للتراث في إطار ما بعد الحداثة لا تعني العودة إلى تقاليد ماضية، بل هي دعوة لاستعادة ما كان مُهملاً من قيم ورؤى يمكن أن تكون مفيدة في مواجهة تحديات العصر الحالي، فهذا التصور  يستند  إلى فلسفة الاختلاف، التي تتبنى فكرة أن الحقيقة ليست واحدة، بل تتعدد وفقاً للثقافات والتجارب المختلفة، في خضم  لهذه الفلسفة يُنظر إلى التراث كأداة لفهم التعددية الثقافية والمعرفية، فهو يُعتبر الوسيلة التي يمكن من خلالها بناء هوية انسانية مرنة  تساهم في تحقيق  التنمية المستدامة، فتحقيق هذه الأخيرة لا يقتصر فقط على استخدام التقنيات الحديثة ومراكمة الإنتاج المادي، بل يشمل أيضاً تعزيز القيم الثقافية الإنسانية والبيئية، حيث تساهم هذه المحددات والقيم في بناء مجتمعات أكثر توازناً، حيث.

 إن الاعتراف بالتراث لا يعني العودة إلى ماضٍ ساكن، بل هو عملية حيوية يمكن أن تلهم استراتيجيات جديدة في مجالات الاقتصاد والتنمية البشرية، من خلال اعتماد أساليب مستدامة تحترم القيم الثقافية في كل مرحلة من مراحل التقدم.

إذن، في ظل هذا النموذج  الجديد، يمكننا أن نقول إننا بصدد بناء براديغم جديد يتجاوز نمودج القطع مع التراث الذي ساد في سياق الحداثة ، هذا البراديغم الجديد يقوم على دمج الماضي والحاضر بشكل يعترف بالاختلافات والتعددية، ويُؤسّس لتصور أكثر شمولية للتنمية، تنمية مستدامة  تتعامل مع التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سياق يعترف بالتنوع الثقافي والإنساني.

-طالب باحث في ماستر دراسات في الثرات المادي واللامادي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى