في نقد اليهودية المتطرفة بقلم الرطابي عبد الكريم

يبدو أن الحركة الصهيونية تغلغلت بشكل لا يصدق في التركيبة الذهنية لدى اليهود المغاربة سواء داخل المغرب أو داخل إسرائيل.لقد تعرضوا لغسيل الدماغ فأصبحوا أكثر تطرفا من الجنسيات الأخرى.هذا التطرف ليس نزعة / بذرة حملوها معهم إلى (أرض الميعاد).إنها طبخة نضجت على نار هادئة منذ هجرتهم نهاية الخمسينات وقد غدتها الحركة الصهيونية بأباطيلها ومشروعها الاستيطاني العنصري .
إن مشروعا مجتمعيا يقوم على كراهية الآخر واستعباده هو مشروع يسير نحو الانهيار. إن ما عجل بقيام إسرائيل ومعها الحركة الصهيونية هو هذه العنصرية المتطرفة(النازية) في الغرب الاستعماري.والآن أصبحت الضحية سفاكة للدماء وكأن حقوق الإنسان انحصرت في حماية اليهود فقط.
أنا لا أنتصب هنا للدفاع عن الشعب الفلسطيني انطلاقا من نزعة قومية أو عروبية،ولكنني أدافع عنه كما أدافع عن اليهود الذين اضطهدوا عبر التاريخ ،وأدافع عن جميع المضطهدين في العالم كيفما كانت ديانتهم أو جنسهم أو عرقهم أو لونهم.
فهل تختلف معسكرات التعذيب النازية عن تعذيب الفلسطينيين في سجون إسرائيل؟وهل تختلف أفران الغاز عن تدمير المدن والمستشفيات والمدارس فوق رؤوس البشر في غزة؟ إن الإبادة الممنهجة للعرق اليهودي لا تختلف عن إبادة الشعب الفلسطيني .فهي موثقة بالصوت والصورة أمام العالم (الغربي)المتحضر.
مخطئ من يقول إن الممارسات العنصرية الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني كانت ردة فعل ليوم السابع من أكتوبر،بل هي عقيدة عنصرية استمدتها الحركة الصهيونية من مرجعيات دينية تلمودية وتوراتية.هذه المرجعيات تتأسس على عقيدة(اليهود هم شعب الله المختار)،وأن غيرهم من شعوب الأرض هم أغيار مرتبتهم دونية.فقبل قيام إسرائيل روجت الصهيونية فكرة (فلسطين أرض بلا شعب ) و(اليهود شعب بلا أرض).وكان لا بد لهذه الأباطيل أن تستند على رابط ديني يتمثل في أسطورة (أرض الميعاد)و(شعب الله المختار). فجندت الحركة الصهيونية ثلاث منظمات إرهابية (الهاجاناه وشتيرن وأرغون ) لشراء الأراضي من الفلسطينيين وإقامة مستعمرات (كيبوتزات) لتأوي المهاجرين السريين من اليهود لإخفاء الأسلحة وتجندهم في انتظار ساعة الصفر.وكان وعد بلفور 1917 تزكية رسمية من سلطات الانتداب البريطاني للرفع من وتيرة هجرة اليهود نحو فلسطين.
إن إحياء عقيدة (شعب الله المختار) هو عودة إلى عصر البربرية والعبودية.فعندما يتلقى التلميذ الإسرائيلي هذه الأفكار العنصرية يدعمها التفسير الديني المتطرف فإن النتيجة هي هذه الإبادة التي تكتسب شرعيتها من نصوص وتأويلات دينية متطرفة.فمفهوم (شعب الله المختار) يقابله مفهوم (الأغيار) وهم جميع الكائنات البشرية الأخرى غير اليهودية وهي كائنات دونية. لم ينشأ المغاربة – مسلمين ويهودا- في أرضهم (أرض المغرب) على هذه الثقافة العنصرية والاستعلائية خلال تاريخهم الطويل.
فاختلاف الأديان في المغرب بين ساكنته لم يكن عامل نفور أو إقصاء،بل كان عاملا ساهم في التعايش السلمي المشترك بين تلك الطوائف.إن هذه الحمولة التاريخية والثقافية من العيش المشترك والمتسامح انفرطت أوصالها لما هاجر اليهود المغاربة إلى أرض ليست لهم. لقد انخرطوا في جيش الاحتلال وصاروا جنودا وضباطا ينفذون فلسفة الحركة الصهيونية التي تقوم على التطهير العرقي وإقصاء الآخر(الأغيار).وما يؤلمنا كثيرا هو ازدواجية جنسية هؤلاء.
لقد كان تصريح (كادوشات)المغرب (داخله وخارجه) بعد السابع من أكتوبر أنهم اعتبروا هجوم الفصائل الفلسطينية بقيادة (حماس) هجوما بربريا،وفي نظرهم أنه لا ينبغي التساهل مع هؤلاء (غير البشر ) كما صرح نتانياهو.لقد نسي الكادوشات ونتانياهو أن هجوم السابع من أكتوبر هو دفاع مشروع عن النفس.فهم تجاهلوا المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق الفلسطينيين قبل وبعد قيام دولتهم.لقد بلغ عدد المجازر ما بين (1937- 1948) خمسا وسبعين مجزرة أشهرها مجزرة (بلدة الشيخ)ومجزرة(كفر قاسم).
لقد تحولت غزة وقبلها باقي المخيمات في الضفة الغربية إلى سجن كبير.ظل الفلسطيني يراهن على التقسيم الأممي (1948)وراهن على المجتمع الدولي لإنصافه بطرق سلمية وتطبيق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن وطنه .لكن حين انسدت الأبواب أمام تعنت دولة الاحتلال وجد الفلسطيني نفسه بدون وطن،وأن القرارات الدولية مسكنات للتهدئة حتى يرضى بالأمر الواقع ويستسلم.هنا كان لا بد للفلسطيني أن يسمع صوته وبجميع اللغات بما فيها (لغة السلاح).إنه يفضل الموت وهو يقاتل بدل أن يحيى بدون وطن.
فالحركة الصهيونية هي نتاج صراع تاريخي غير متكافئ عرفته أوربا ضد اليهود. لقد عانى اليهود من الاضطهاد في أوربا خلال ألف سنة الماضية.ففرنسا طردتهم سنة 1080م. وفي كييف 1113 وقعت مذبحة ضدهم.كما طردوا من فرنسا ثانية ومن ايطاليا وانجلترا بين سنوات(1147و1171و1198 …) وطردتهم سويسرا(1298)بعد إعدام مائة يهودي شنقا. وفي 1391 طردتهم اسبانيا بعدما أعدمت ثلاثين ألفا وأحرقت خمسة آلاف يهودي أحياء.وفي سنة 1492 صدر قانون باسبانيا يمنع اليهود من دخول البلاد إلى الأبد.وفي ق16 م طردت النمسا والبرتغال وايطاليا وألمانيا وفرنسا اليهود ..
إن الحركة الصهيونية ظهرت كرد فعل على اضطهاد اليهود في أوربا.ومن أدى ثمن هذه المجازر والاضطهاد هو الشعب الفلسطيني. هذا التاريخ الأسود من العنصرية والاضطهاد الذي عاشه يهود أوربا لم يعشه اليهود في المغرب.للإشارة فيهود المغرب نوعان
ا- يهود مغاربة ظهروا قبل أكثر من ألفي سنة1 قبل مجيء الإسلام وكانوا أمازيغ يتحدثون باللسان المحلي.أما العبرية فكانت لغة الكتاب المقدس وتتلى في البيع فقط.
ب- يهود الأندلس الذين طردوا منها واستقروا في المدن العتيقة (طنجة تطوان فاس شفشاون مكناس وجدة…)وواصلوا حياتهم الاجتماعية والدينية بكل حرية بعد انطلاق محاكم التفتيش التي لم يسلم منها اليهود والمسلمون.
ففي الوقت الذي عانى اليهود من الاضطهاد في أوربا وجدوا في بلاد الأندلس والمغرب وباقي البلدان العربية أمانا وحرية المعتقد، فنبغ منهم مفكرون وشعراء وفلاسفة وأطباء وفقهاء (الفقه اليهودي).نذكر منهم ابن ميمون الطبيب والفقيه الذي نشأ في قرطبة رفقة ابن رشد حيث درسا وتابعا دراستهما في فاس.كان ابن ميمون متفوقا في دراسته فعين أستاذا ليدرس مادة التشريح بجامعة القرويين.
تروي كتب التاريخ2 أن موسى بن ميمون وهو في طريقه إلى القدس(قصد الحج) علم صلاح الدين بمروره بأرض مصر ،فعرض عليه أن يستقر بالفسطاط واتخذه طبيبا لأسرته. فاشترط عليه ابن ميمون أن يخصص أياما لعلاج المرضى من المسلمين والمسيحيين واليهود.
كما نبغ شعراء وأدباء يهود كانت اللغة العربية هي وسيلتهم للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم .من هؤلاء نذكر الشاعر موسى بن عيزرا (1070-1140) الذي تغنى بجمال اللغة العربية قائلا لسان العرب بين الألسنة كزمن الربيع بين الأزمنة .
إن الحركة الصهيونية – بفلسفتها العنصرية المنغلقة حول الذات اليهودية- ستقود إسرائيل إلى الشتات مرة أخرى.فهل اليهودي محكوم عليه بالتيه التاريخي؟وهل سيظل سجين الضحية التي تسكن شعوره ولاوعيه؟.إن الشعور بالضحية كان سببا تاريخيا في هذا التيه.فما دامت الحركة الصهيونية -ومن خلفها اليهود المتطرفون- تؤمن بفكرة (اليهود شعب الله المختار) وتؤمن كذلك بفكرة (الأغيار) وتؤمن بنظرية (الاستعلاء) عن الأقوام الأخرى وتؤمن بنقاء العنصر اليهودي فإن ذلك سيقود إسرائيل إلى الدمار.إنها شبيهة بالنازية الأوربية .ولا شك أن مصيرها سيكون مشابها للنازية.إن عنصرية الصهيونية والمتطرفين اليهود سوف لن تتوقف عند حدود دولة فلسطين(وقد التهمتها فعلا) بل ستمتد إلى تحقيق حلم (إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات)،ولن يتوقف هذا الحلم مستقبلا عند هذه الحدود،بل سيتسع ليشمل أوربا وإفريقيا وآسيا .بعد حرب 1956 صرح دافيد بن غوريون أمام الكنيست الإسرائيلي أن السبب الحقيقي لهذه الحرب هو (إعادة مملكة داود وسليمان إلى حدودها التوراتية .(انظر كتاب التاريخ اليهودي،الديانة اليهودية – وطأة ثلاثة آلاف سنة ص 19 من تأليف إسرائيل شاحاك ).
1- 2milles ans de vie juive au Maroc (Paris 1983.. version arabe Rabat 1987).
2 – Le judaïsme maghrébin Le MAROC terre des rencontres des cultures et des civilisations. Auteur Haïm Zafrani .