أميرة حلمي مطر، الفيلسوفة الباحثة في علم الجمال، ترحل عنا بدون استئذان

تنوير: متابعة
لفظت الدكتورة أميرة حلمي مطر، أستاذة الفلسفة بجامعة القاهرة، أنفاسها الأخيرة يوم الثلاثاء ثامن يوليوز الجاري. كانت قيد حياتها واحدة من رائدات الفكر الفلسفي العربي المعاصر. أوقفت حياتها على نشر العلم والتدريس والبحث الفلسفي. ساهمت الراحلة في إغناء الفكر العربي بدراسات عميقة في الفلسفة اليونانية وعلم الجمال. لم تكن دكتورة أميرة مجرد أكاديمية بارعة، بل كانت شاهدة على مسيرة تحوّل الفكر العربي الحديث، ومساهمة في تفعيل العقلانية النقدية.
ولدت الدكتورة أميرة حلمي مطر بمدينة القاهرة عام 1930، لأسرة عريقة تمتد جذورها العلمية عميقة في صلب التاريخ. كان والدها واحدا من أوائل المهندسين في مجال الهندسة الكيميائيّة وحاصلاً على شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر بإنجلترا.
التحقتْ حلمي مطر بآداب القاهرة في العام 1948 وتخرّجت الأولى على دفعتها بحصولها على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة عام 1952، تم تعينها معيدة مُعيدة بنفس القسم عام 1955 نتيجة تفوّقها وتخصّصت في الفلسفة اليونانيّة وعلم الجمال، حيث أرادت أن تُتابع دراستها في مجال آخر فاختارتْ دراسة العلوم السياسيّة وحصلت على دبلوم الماجستير في العلوم السياسيّة.
بعد حصولها على شهادة الدكتوراه واصلت عطاءها العلمي بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة وحصلت على الأستاذيّة في السبعينات من القرن الماضي. تولّت رئاسة قسم الفلسفة لفترات متعدّدة وأشرفت على العديد من الرسائل الجامعيّة وحصلتْ على جوائز الدولة التشجيعيّة والتفوّق وعلى وسام الامتياز من الدرجة الأولى لمجموع أعمالها العلميّة.
أتقنُت اللغة اليونانيّة القديمة والحديثة والفرنسيّة والانجليزيّة، واعتنت بقراءة الشعر وسماع الموسيقى الكلاسيكيّة وتذوقت الفنون التشكيليّة، ويشكّل الفنّ عندها وبجميع أشكاله جانبا هامّاً وأساسيّا من هواياتها. درّستْ في كثير من الجامعات العربيّة في كل من قطر، السعوديّة، الإمارات العربيّة المتّحدة وبغداد.
كانت على صلة وثيقة بالجمعياّت الفلسفية في العالم، وعضوة في بعض المؤسّسات الفكريّة في اليونان وفي جَمْعيتها الفلسفيّة. كانت تنتمي إلى رعيل المفكّرات العربيات اللواتي يُشهد لهنّ بالموهبة والكتابات النوعيّة في مجال الفلسفة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لقد قدّمت إنتاجاً قيّما متفرّداً في الفكر بشكل عام وفي الفلسفة اليونانيّة والجماليّة والسياسيّة بشكل خاصّ.
وكان من تجليّات التلاحُم بين شخصيتها وثقافتها من جهة وما تؤمن به وما تكتبه من جهة أخرى أن أظهرت إبداعاً لافتاً يكشفُ عن مقدرة متميّزة. كانت الفلسفة مُلْهمة لها ومعيناً لا يَنْضب للتأليف والإبداع الفكري والترجمة إلى اللغة العربيّة. أتقنت الكتابة بلغة الضادّ كما تمكّنتْ من عدّة لغات أجنبيّة تحدّثا وكتابة، فكان حصيلة ذلك تراثاً إنسانيّاً يستحقّ الاهْتمام.
وهكذا ترحل عنا الاستاذه والفيلسوفه الجليلة اميره حلمي مطر، تاركة خلفها أثرا لا يمحى من العقل الفلسفي العربي، لم تكن أميرة حلمي مطر مجرد “أستاذة فلسفة يونانية” في الجامعات، بل كانت جسرا بين .الكلمة القديمة والعقل المعاصر.
غابت عنا الراهبة الفلسفية، التي عكفت خلال مدة غير بسيرة من عمرها على تأمل الخير والحق والجمال، وعلى بناء عقول مؤمنة بالنقد لا بالتسليم، بالتفكير لا بالتلقين، بالاختلاف لا بالقطيع.
لكنها، وإن غابت جسدا، ستظل تسكن هوامش الكتب، و قاعات المحاضرات، ولمعة الدهشة في عيون محبي الفلسفه ودارسيها عندما يقرأون لها.
لم تكن أميرة مجرد أكاديمية، بل كانت أيقونة فلسفية نادرة، امرأة وعتْ التاريخ والجمال والميتافيزيقا، ومزجتها بلغة .حساسة، شفافة تفتح العقل
رحلت في صمت كما يليق بحكماء الزمن البعيد، لكنها تركت تراثا من الفكر النبيل، وكلمات لن تسقط من .ذاكرة الباحثين أبدا.ستظل حاضرة كلما نطق طالب باسم سقراط دون خوف، أو سأل أحدهم: ما الجمال؟ دون أن يسخر منه أحد.
فوداعا أيتها المرأة التي أعادت للفلسفة صوتها الأنثوي النبيل في العالم العربي.
لتبق كتبك دروبا مفتوحة لمن ما يزال يسير على أطراف الحيرة، ويطلب النور بعين لا تخشى الدهشة. غفر الله لك، يا أميرة المعنى في زمن السطح، وأسكنك في جنات الجمال الذي أحببتِه، وسعيت إلى تأويله، ولم تملي منه يوما.