ثقافة و فن

الأستاذة الدكتورة وسام علي الخالدي تكتب عن أعمال الأديب أحمد طايل (1-2)

حين نقرأ لأحمد طايل، فإننا لا نلجُ مجرد عالم روائي، بل نعبر بوابةً إلى الذات وهي تُحاور ذاكرتها، وتُرمّم شروخها بأناة الحرف، وتستعيد ما تبقّى من ملامح الزمن الهارب.
في أعماله الروائية التي حملت عناوين نابضة بالحنين والتأمل مثل “عيد ميلاد ميت”، “شيء من بعيد ناداني”، “رأس مملوء حكايات”، “أيام بعيدة جدًا”، “الوقوف على عتبات الأمس”، و*”متتالية حياة”*، تتشكّل ملامح مشروع سردي واضح، يمتاز بالتماهي بين التجربة الإنسانية الفردية والهمّ الوجودي العام.
#سرد
لذا يكتب أحمد طايل بروحٍ تتقن الإصغاء للظلّ، ولتفاصيل الحياة الهاربة من الضوء، فيجعل من الهامش مركزًا، ومن الصمت نصًا موازياً. لا يسعى إلى صخب الدراما، بل إلى عمق التأمل، حيث تتحوّل الذكريات إلى بطلات، ويغدو الحنين بطلاً مضمرًا يسكن كل سطر.
يمتلك طايل خصوصية أسلوبية تتجلّى في لغته المتقشفة حينًا، الشاعرية حينًا آخر، وفي ميله إلى كتابة تتجاوز الحكاية إلى ما وراءها، حيث الفكرة تتقاطع مع الإحساس، والرمز يعانق الواقع، والوجع الشخصي يتداخل مع صرخة العالم.
في هذه الدراسة، نسعى إلى استجلاء ملامح هذا المشروع السردي، من خلال تحليل جماليات اللغة، وبنية الزمن، وبورتريهات الشخصيات، وعمق المعالجة الوجودية للحياة والموت والذاكرة. كما نحاول تتبّع التحوّلات في خطابه السردي عبر رواياته، ورصد الثابت والمتحوّل في أدواته وتقنياته.
إن روايات أحمد طايل ليست نصوصًا تُقرأ، بل هي حياة تُستعاد، وجراح تُلامس، ومرآة لأرواح سكنها الصمت وراودها الحنين، فصاغت حكاياتها بلغة تكتب الألم بجمال، والغياب بحضور، والمرارة بندى إنساني لا يُنسى ، ولعلّ ما يميّز هذا المشروع السردي أنّه يكتب من تخوم الحياة، من تلك المناطق الهامشية التي كثيرًا ما تُهمَل في الكتابة الروائية، لكنه يمنحها قيمة وعمقًا وخصوصية، كأنّه يضع الضوء حيث اعتدنا الظل، ويُعلي من شأن التفاصيل التي نظنّها عابرة.
#روايات
ففي رواياته، نجد أنّ الشخصيات لا تتكلّم كثيرًا، لكنها تقول ما لا يُقال. والأحداث لا تعتمد على حبكات صاخبة بقدر ما تنسج من الصمت والتأمل والحوار الداخلي نسيجًا روائيًا متماسكًا. فكل عمل لديه يبدو كأصداء حياة لا تزال تدور في دواخلنا، وإن انتهت من الخارج.
سنقف في هذه الدراسة عند أبرز المحاور التي تشكّل ملامح هذا المشروع الإبداعي، بدءًا من ثنائية الذاكرة والحنين، مرورًا بجماليات اللغة والسرد، وتحليل بناء الشخصيات ووعيها الوجودي، إلى جانب رصد التقنيات الفنية التي اعتمدها، والفضاءات التي اشتغل عليها.
إننا أمام كاتب لا يكتفي بأن يحكي، بل يسعى إلى إعادة تشكيل العالم من جديد، من خلال نظرة حساسة، ونفس طويل، وأسلوب فيه من الشعر قدر ما فيه من الحكمة. وبهذا، يصبح أحمد طايل ليس مجرد راوٍ، بل كاتبًا للظلّ، وصانعًا لصوت ما بعد الصمت.
المحور الأول: الذاكرة والحنين… سرد ما لا يُنسى
تشغل الذاكرة حيّزًا مركزيًا في روايات أحمد طايل، فهي ليست مجرد استدعاء لما مضى، بل أداة تفكيك وتأمل، وأحيانًا مقاومة لما آلت إليه الذات والعالم. أما الحنين، فلا يظهر بوصفه نزوة شعورية، بل كـ”قيمة سردية” تُعيد تشكيل بنية الرواية، وتوجّه حركتها الداخلية.
#عيد_ميلاد_ميت
ففي رواية “عيد ميلاد ميت”، نتلمّس سردًا يتكئ على استرجاع الماضي، لا بوصفه زمنًا انتهى، بل كزمن حيّ يسكن الشخصية ويعيد تشكيل حاضرها. الموت هنا ليس نهاية، بل عتبة لبعث الذاكرة من سباتها، حيث تتوالد الأسئلة: من نحن بعد الغياب؟ وماذا يبقى من الحب بعد الفقد؟ تبدو الرواية أشبه بمحاولة لإضاءة مناطق العتمة في الذات، عبر مرايا الذاكرة، لا لتأبين الميت فحسب، بل لإعادة بناء معنى الحياة.
أما في “شيء من بعيد ناداني”، فإنّ العنوان نفسه ينهض على الحنين كقوة جذب خفية. فالصوت البعيد هو استعارة عن ماضٍ لم يُغلق بعد، وعن جراح لم تُشفَ، وتأتي الرواية كاستجابة لذلك النداء المراوغ. الشخصيات لا تركض خلف الماضي، بل يسكنها الماضي كما يسكنها ظلّها، ويعيد تشكيل قراراتها ووجودها. وهنا يظهر الحنين بوصفه نداءً داخليًا يتجاوز الزمان، يتّصل بالطفولة، بالعائلة، بالعلاقات التي انكسرت فجأة أو بصمت.
#الحكى
وفي رواية “رأس مملوء حكايات”، تتداخل الطبقات الزمنية، وتُروى الحكايات كما لو كانت تحرّرًا من عبء التذكّر. الرأس الممتلئ بالحكايات ليس عقلًا سرديًا فحسب، بل هو مركز الألم، والبوصلة التي توجه الروي إلى الداخل أكثر من الخارج. تتقاطع الأصوات وتتعدد الحكايات، لكنها تعود جميعها إلى ذاكرة واحدة تبحث عن ترتيب الفوضى، أو فهم مبررها.
ويُحسن أحمد طايل في أعماله تطويع تقنية “الاسترجاع” (Flashback)، لا بوصفها أداة فنية فقط، بل كحالة شعورية تتسلل في اللاوعي السردي للنص. فالزمن في كتاباته ليس خطيًا، بل دائريًا ومفتوحًا، حيث يُمكن للحظة صغيرة من الماضي أن تعيد توجيه حياة كاملة.
الحنين في هذه الأعمال لا يقدم كحالة رومانسية، بل يُكتب بنَفَس حكيم، يعي هشاشة الوجود، ويعيد للذاكرة دورها كقوّة شفاء، لا كعذاب دائم. وهذا ما يُكسب سرديات أحمد طايل بُعدًا فلسفيًا وجماليًا، ويجعله أقرب إلى كتابة الذاكرة المعمّدة بالتأمل.
ولا تقف الذاكرة في سرديات أحمد طايل عند حدود الذاتي أو العاطفي فحسب، بل تمتد لتشكّل خريطة وجدانية لمجتمع بأكمله، حيث تتحوّل التجربة الفردية إلى مرآة لزمن عربي مثقل بالفقد والتحوّلات. في رواية “أيام بعيدة جدًا”، يحضر الماضي بوصفه فضاءً موازياً للحاضر، لا يغيب بل يتداخل ويُراوغ، وكأن الشخصيات تعيش في مفترق طرق دائم بين ما كان، وما لا يمكن استعادته.
#المكان
ويشكل المكان أيضًا جزء أصيل من الذاكرة، يظهر ذلك بوضوح في رواية “الوقوف على عتبات الأمس”، حيث لا يكون الفضاء الروائي مجرد مسرح للأحداث، بل كيانًا حيًا يتفاعل مع الحنين ويمنحه بعده العميق. “العتبات” في هذه الرواية ليست عتبات البيوت فقط، بل عتبات الذاكرة، والزمن، والنسيان، والهوية. فالشخصيات تقف على تخوم الذكرى، لا لتستسلم لها، بل لتفهم ذاتها في مرآتها.
أما في رواية “متتالية حياة”، فإن الذاكرة تظهر كـ”بنية سردية متقطعة”، تتقدم ثم تتراجع، تتوهج ثم تخبو، في لعبة سردية أقرب إلى المقطوعات الموسيقية التي تختلف في النغمة لكنها تتآلف في الجوهر. يستثمر الكاتب هنا شكل “المتتالية” ليعكس طبيعة الذاكرة ذاتها: غير خطيّة، متشظية، ومفتوحة على التأويل.
ومما يُميز تعامل أحمد طايل مع الذاكرة، أنّه لا يعيد إنتاج الماضي لتمجيده، بل ليعيد مساءلته. لا يكتب النوستالجيا بوصفها ملاذًا، بل بوصفها ساحة للشك، والتحليل، والتفكيك. فالماضي ليس فردوسًا مفقودًا، بل جرحًا مفتوحًا لا يُمكن ترميمه إلا بمواجهته.
إنّ الحنين في سردياته لا ينفصل عن الألم، لكنه أيضًا لا ينفصل عن الأمل، كما لو أنّ التذكّر نفسه فعل مقاومة ضد النسيان، وضد الزوال. وهنا تتجلّى النزعة الإنسانية العميقة في مشروعه السردي، إذ لا يكتب عن الأفراد فقط، بل عن “أثر الحياة فيهم”، عن ذلك البقاء الصامت الذي تصنعه الذاكرة، ويؤثّثه الحنين.
وهكذا، يمكن القول إن أحمد طايل لا يستخدم الذاكرة كخلفية سردية، بل كبنية جوهرية تتفرّع منها الرؤية، وتنمو بها اللغة، ويُبنى بها المعنى.
المحور الثاني: جماليات اللغة… كتابة مشحونة بالصمت والإيحاء
،ويمتلك أحمد طايل أسلوبًا سرديًا يشي بذائقة لغوية مرهفة، تنحاز إلى البساطة الهادئة دون أن تقع في الابتذال، وإلى التكثيف دون أن تخلّ بالوضوح. لغته ليست صاخبة، لكنها مشحونة بطاقة شعورية تنفذ بهدوء إلى القارئ، كأنها تقول ما لا يُقال، وتلمس دون أن تُمسك.
#اللغة
يُراهن طايل على اللغة كأداة للتأمل لا للخطابة، فيمنح سرده نَفَسًا داخليًا، تهمس فيه الجملة أكثر مما تصرخ، وتفصح أكثر حين توحي. فالكلمات عنده لا تفيض، بل تتقشّف وتتدلّى كحبات الضوء في عتمة روحه الساردة.
ففي رواية “رأس مملوء حكايات”، تتخذ اللغة منحًى أقرب إلى الشفاهية الوجدانية، حيث يختلط السرد بالحكاية، والحكاية بالتأمل، ليبدو النص وكأنه مكتوب بروح راوٍ عجوز يستعيد صوته لا ليُخبر، بل ليُطهر. اللغة هنا محمّلة بإيقاع داخلي نابع من عمق التجربة، لا من زخرفة اللفظ، وهو ما يُضفي على العمل مسحةً من الشجن الهادئ.
أما في رواية “شيء من بعيد ناداني”، فالجملة عند طايل تتلوّى بخفة، وتنساب كنسمة، دون أن تفقد توهّجها الرمزي. “الشيء” في العنوان لا يُسمّى، لكنه يحضر في النص بكل أشكاله: ذكرى، صوت، ظلّ، شعور، وهو ما يجعل اللغة أداة لا للوصف فقط، بل لخلق حالات شعورية معلّقة بين الفقد والرجاء.
وفي “الوقوف على عتبات الأمس”، تتماهى اللغة مع موضوعها؛ فهي تقف على الحافة كما تفعل الشخصيات، تتأمل ولا تقتحم، تشير ولا تفسّر، تلمّح أكثر مما تصرّح. ويبدو أن طايل يتقصّد هذا النوع من الكتابة الحدّية، ليمنح قارئه دورًا تفاعليًا في ملء الفراغات، وتأويل المسكوت عنه.
ولعل أبرز ما يُلاحظ في أسلوب الكاتب احمد طايل:
تجنّب المباشرة والتقريرية: حيث يتكئ على الغموض الإيحائي لا على التوضيح الفجّ.
التكثيف الشعري: دون أن يغرق في المجاز المفرط، بل يجعل اللغة تضيء المعنى بهدوء.
الإيقاع الداخلي: الذي يتجلّى في انسجام الجمل، وتوقّفها عند لحظة انفعالية محسوبة بدقّة.
البنية السردية القائمة على الصمت: إذ يتعامل مع الفراغات بين الجمل كمساحات دلالية تضيف للمعنى، لا مجرد توقفات.
وفي رواية “عيد ميلاد ميت”، يظهر الحس الشعري للغة بجلاء، لا سيّما في تأطير الألم بجمل قصيرة، حادّة أحيانًا، لكنها مشحونة بالصدق. كأنّ الكاتب يقول ما يختنق في صدر الشخصية دون أن يصرخ. اللغة هنا ليست مجرّد وسيلة للحكي، بل شريك في التجربة النفسية والفكرية، فإن أحمد طايل لا يكتب بلغة تصف، بل بلغة تستشعر وتُشعِر. فهي لغة الإنسان الداخلي، الكائن المرهف الذي يقف على تخوم الشعور والتذكّر، بين ما كان، وما لا يزال يُراوده بصمت.
ومما يُلفت في أسلوب أحمد طايل، أنه لا يكتب من خارج التجربة، بل من عمقها. فتأتي اللغة عنده نابعة من داخل الشخصية، متماهية مع حالاتها النفسية، وأحيانًا صامتة حيث يجب أن تصمت. إنه كاتب يُجيد الإنصات، لا فقط للعالم، بل للغة ذاتها، كأنّه يختبر كل جملة قبل أن يطلقها على الورق، ليُبقي منها ما يلائم إيقاع النصّ، ويحذف ما يثقل روحه.
في “متتالية حياة”، تبدو اللغة كما لو كانت شذرات داخل دفتر حياة مفتوح على ماضٍ ومضارع متداخلين. الجمل تأتي قصيرة، متقطعة أحيانًا، لكنها تكتنز كثافة شعورية، تعبّر عن حالة من التمزق الداخلي والبحث المستمر عن اتّساق معنوي. هنا يتجلى تأثير أسلوب “الكتابة المقطعية” التي تُشبه النَفَس الشعري، حيث كل مقطع هو وحدة دلالية مستقلة، لكنه في الوقت ذاته جزء من نَسَق شعوري كلي.
كما نلاحظ في معظم رواياته نزعة نحو الاقتصاد التعبيري، حيث يتخلّى الكاتب عن الزوائد البلاغية، مكتفيًا بجملة واحدة تحمل ما قد تعجز صفحة عن قوله. في هذا الاقتصاد تتجلّى مهارة الصياغة، فليس الصعب أن تُطيل الحديث، بل أن تختصره دون أن تُفقده ألقه.
وتتجلّى قوة لغته أيضًا في قدرته على خلق مفارقات شعورية من خلال تراكيب بسيطة:
جُمل مثل: “رأسه ممتلئ بالحكايات لكنه لا يتكلم”،
أو: “كان ينتظر شيئًا لا يعرفه، لكنه يعرف أنه لن يأتي.”
هذه العبارات حولت المألوف إلى مشحون، واليومي إلى رمزي، وتُحمّل اللغة بطبقات من المعنى تتجاوز دلالتها السطحية.
وفي كثير من المواضع، تتقاطع لغته مع الشعر لا من حيث الوزن أو القافية، بل من حيث الرؤية والصورة والاقتصاد. وهذا التقاطع يضفي على نصوصه بُعدًا إنسانيًا، يجعل القارئ يتورّط عاطفيًا في النص، وكأنه يرى فيه مرآة لتجربته الخاصة.
إنّ جماليات اللغة في مشروع أحمد طايل السردي لا تنفصل عن رؤيته للكتابة بوصفها فعل صمتٍ وتذكّر. فليست اللغة عنده مجرد أداة لنقل الأحداث، بل وسيلة لمقاومة النسيان، لتطهير الذاكرة، وللإمساك بتفاصيل الحياة الهاربة. ولهذا تبدو لغته كما لو كانت تكتب الحياة من داخلها لا من خارجها.
المحور الثالث: الشخصيات والوعي الوجودي… كيانات تبحث عن معناها
الشخصيات في روايات أحمد طايل لا تُبنى على أساس الحدث، ولا تُرسم وفق نماذج نمطية أو قوالب جاهزة، بل تُولد من رحم التأمل، وتتشكل عبر طبقات من الشعور والوعي والذاكرة. فهي كيانات تسير في الحياة وهي تتساءل عنها، تمضي في الزمن وهي تفتّش عن معناها فيه، كأنّ كل شخصية هي صوت داخلي متمرد على العالم من حوله.
في رواية “عيد ميلاد ميت”، تتجلّى الشخصيات بوصفها كائنات تعيش على حافة الفقد. الشخصية الرئيسة هنا لا تحتفل، بل تستحضر؛ لا تولد، بل تفتقد. والحدث ليس إلا ذريعة لفتح أبواب الذاكرة، حيث تتقاطع مشاعر الحب، والخذلان، والذنب، والحنين. إنها شخصية تتأمل الحياة من مشارف الموت، وتحاور الغياب كما لو كان حضورًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى