وجهة نظر

في قلب الأوضاع 3 : كلب جهنم ذو الرؤوس الثلاثة أو اختراق “الحصن المقدس” أحمد الخمسي

أحمد الخمسي

من هو ذلك “المراكشي” الذي اعتبر التثليث الروماني مجرد “كلب جهنم بثلاثة رؤوس”؟

ليعذرني من يرى في الكتابة الصحافية مجرد تشريح الفكرة عبر جمل بسيطة على طريقة “أنيس منصور”. نعم، ذاك نموذج ناجح، في فترة الكتابة المائية التي تستجيب لمجرد متعة القراءة الصحافية، عندما كانت تقاليد الحداثة لدى البرجوازية الصغيرة العربية، تتلخص في قراءة الجريدة رفقة كأس قهوة في المقهى العمومي، مقابل تقليدانية عربية تفصل ما بين الحداثة الاستعراضية الخارجية وبين “العائلة المقدسة” حيث سلطة ذات نفس “المثقف” الذي يستمتع بقراءة الجريدة برجل على رجل، مستأنسا بمنفضة الدخان على الطاولة، يسري عليه النموذج الشرقي “للي ما يطبخ عشاتو وما يذبح شاته عزيواه فحياته”.

في مقابل الكتابة المائية تلك، نسي الناس عندنا الكتابة الصحافية، أو لنقل أنهم لم يطلعوا أصلا، التي كانت تنقل كيفية نقل الاختراعات العلمية كما سرت بها الركبان في قرن التنوير الأوربي، وكما وطّنها في المنطقة العربية يعقوب صرّوف في المقتطف بداية القرن العشرين، ضمن صحافة التنوير، صحافة النهضة. اليوم، في مجتمع المعرفة، عبر الانترنت، يتيح لنا العودة للتعرف على صحافة المعلومة التنويرية المفيدة في اكتشاف عوالم العلم والتي لم تكن تكتفي بانعكاس المعيش اليومي الذي يلتهم الضمير.

فالصحافي هو “البارشوك” في سيارة القراءة اليومية التي تتقدم في غابة المجهول بين المسالك الوعرة، وليست فقط تلك التي تقدم المستملحات السهلة لموظف صغير خلال فترة الاستراحة من العمل المكتبي. الصحافي يبسّط المعلومة التي من المفترض يتم التوقف عندها في الدرس التعليمي وهي نفس المعلومة التي يقضي المؤرخ أو عالِم الطبيعيات عمره في سبر أغوارها في المكتبة المتخصصة أو في المختبر. فالصلة وثيقة، في عالم اليوم، بين الإعلام والتعليم والبحث العلمي. دون صلة بين زوايا هذا المثلث لا نهضة ولا هم يحزنون.

هذه المقدمة الطلالية بقاموس الشعر، كانت ضرورية للتوقف عند معلومة أخرى، معلومة مجهولة لدينا. ولا نهتم بالمعلومات التي ندعي أنها كانت مجهولة سوى لنوع المعلومات التي كانت في سياق اهتممنا به ضمن أطروحات أصبحت في حياتنا الفكرية بمثابة الماء للحياة، بالمعنى القرآني (وجعلنا كم الماء كل شيء حي)، وبالمعنى الفلسفي اليوناني من قبل. فلا يجهلنّ أحد من قراء العربية، كم غرقت النخب في هموم الإصلاح الديني كضرورة لتقويم العقل الشرقي، مقدمة لفهم النفس والناس والعالم.

***

عندما قرأنا في الكتاب المدرسي نصوص الإصلاح الديني في أوربا مسلكا لإصلاح العقل المسيحي الأوربي، قراءنا ثنائية الصراع بين القديم الكاثوليكي والجديد المحتج البروتستانتي. وفهمنا أن القديم جفت روحه وغرق في عبادة المال بائعا صكوك الغفران، ومقابله فهمنا أن الجديد جاء ليجدد العودة الى الزهد والخروج بالإيمان من زخرفة الكنيسة الى الإيمان داخل روح الفرد. كما أن الإصلاح الديني الأوربي مجرد عودة الى الكهف. لا منافسة اقتصادية وحرص على حب الحياة، ثم يسقط في يدنا عندما نقرأ ماكس ويبر حول العلاقة بين الحداثة الرأسمالية وبين الأخلاق البروتستانتية. فينمحي في دماغنا كل رصيد قرأناه حول الإصلاح الديني الأوربي ومن جديد نتيه بين الزهد المثالي داخل الكهف وبين حقيقة العلاقة بين التجديد الديني وبين التوثب الغربي لقيادة الحضارة الإنسانية.

في المحصلة يرجع الشرقي الحداثي الى المنطق البسيط، من زاوية الانتقال المنطقي من مرحلة الثورة الدينية لإنقاذ البشرية من العبودية، الى مرحلة الثورة السياسية الديمقراطية قصد انتشال البشرية من الاستغلال، وقد نتجه رأسا الى رمي الجنين بمعية ماء النفاس كما يقول الفرنسيون. أي نمسك بالدين ورصيد المتدينين لنحسم القفزة نحو التقدم بعلمانية صرفة بلا دين ولا متدينين. تلك هي الصورة التي أخذها المشارقة عن الماركسية. ماركسية عدمية. تعترف بقيمة العامل الانتاجية، وتمسك بعنقه لتخنق فيه إيمانه الديني ومن بعد لا يبقى سوى التلفيق لاستدراك الفهم المتداول حول مقولة “الدين أفيون الشعوب” كونها بغير المعنى المتداول.

***

إلى حدود الآن لم نُفِد القارئ في شيء حول المعلومة الغائبة بصدد الإصلاح الديني. ولم نضع الأصبع حول الغائب الناقص في درس الإصلاح الديني الغربي الذي لوّكناه مع بعضنا وحرنا فيه مع أنفسنا بصيغة أم كلثوم “أكاد أكذب نفسي”. أي لم نشرح كيف بقينا في منطقة الشك وكيف عجزنا أن نخرج إلى منطقة اليقين في قضايا الإصلاح الديني.

منطق التمجيد والاقتباس السهل البـبّغائي الذي سلكناه مع الكتاب المدرسي والدرس الرسمي في قضية الإصلاح الديني الغربي، غابت عنا المعلومة التي نفهم من خلالها كيف أدى الإصلاح الديني الغربي إلى تلقف النشاط الاقتصادي الذي يفلح في إنتاج الثروة؟ والمعلومة الثانية التي غابت عنا في نفس درس الاصلاح الديني هي كيف اكتشف الغرب من بعد أن المصلحين الدينيين، مذهب البروتستانت لم يتقدموا أماما نحو احترام حرية الاعتقاد، أي حرية ضمير الفرد؟

المعلومة الأولى جدّد ماكس ويبر الاهتمام بها فأوضحها بداية القرن العشرين (روح الرأسمالية ضمن أخلاق البروتستانتية). أما المعلومة الثانية فهناك إجماع غربي رسمي على طمسها، ولو أنها مكتوبة لكنها ما زالت مغمورة. وهو ما يهمنا الإمساك بها ها هنا.

ذهب أحد الغربيين ضمن منطق الإصلاح الديني إلى الحد الأقصى. واعتبر الكنيسة الكاثوليكية امتدادا للهيمنة الرومانية اللاتينية على تعاليم المسيح.

***

من منّا سمع في درس الإصلاح الديني الغربي ونحن ندرس انتقال أوربا الى الحداثة باسم ميغيل سرفيت Miguel Servet؟لن يدّعي أحد ذلك. فالنسخة الفرنسية نسخة شوفينية كاثوليكية في العمق، رغم التصريح العلني بعلمانية الفكر الفرنسي وحياده تجاه المذاهب والأديان.

فقط اليوم، بفضل مجتمع المعرفة الذي حرر عفريت الكتب/المصادر من قمقوم الاحتكار، نستطيع اكتشاف السجال الذي تقدمه المواقع الكاثوليكية الجديدة، ضد زعيم البروتستانتية الفرنسية العتيدة بزعامة جان كالفان، حالة القتل البشع الذي تسبب فيه كالفان لمصلح مسيحي آخر عاصره والتقى به ومكّنه من كتبه وأطروحته في الإصلاح. ولأن كالفان دهش من منطق ميغيل سيرفيت ومن رجاحة حججه فقد خاف من تفوقه عليه من وانتشار أفكار سيرفيت.

ميغيل سيرفيت طبيب اسباني كطلاني، هرب من محاكم التفتيش الاسبانية الى فرنسا. اشتهر بتشخيصه للدورة الدموية الصغرى (ما بين القلب والرئتين)، وبنى تحليله للروح والايمان على كون الايمان في الدم وليس في القلب عكس ما كان يقول به المسيحيون بمن فيهم كالفان. واعتبرالايمان يساوي الحياة نفسها كونه هو التنفس الذي يدخل الرئتين هبة من الله للكائنات. ولما كانت طريقته قريبة من طرق كوبيرنيك وجاليليو في علم الفلك، فقد خاف كالفان من ربط الاصلاح بما لم يكن البروتستانت قادرين على تحمل مسؤولياته تجاه الرأي العام المسيحي ساعتها، بصدد الصراع الفكري حول مركزية الأرض في الكون، فوشى به الى المحكمة الفرنسية الكاثوليكية في منطقة ليون/أفينيون، وقدم كتاب سيرفيت حجة على “هرطته”. فهرب سيرفيت الى سوسرا حيث كالفان نفسه مقيما. وأوشى به ثانية محرضا المحاكم في المقاطعات السويسرية. كانت الحجة الدامغة التي اعتبر بسببها ميغيل سيرفيت زنديقا كونه شبّه التثليث والصليب كما لو كان “كلب جهنم بثلاثة رؤوس”. معتبرا لإيمان المسيحي الحق إيمان توحيدي صرف لا علاقة له بالتثليث. واعتبر البروتستانتية ستبقى توأما للكاثوليكية ما دامت متمسكة بالتأويل الروماني لتعاليم المسيح.

كان المصلح الألماني البروتستانتي الأول مارتن لوثر، كلما ذكر أمامه اسم ميغيل سيرفيت إلا وسخر من ذكره ناعتا إياه: “المراكشي”.

***

إلى اليوم، يجلس الليبرالي واليساري المغربي والعربي عموما فوق كرسي الليبرالي واليساري الغربي ليدعو الى الاصلاح الديني.

فالمغاربة والعرب يدعون دعواتهم باسم الحداثة وهم لا يزيدون عن الاقتباس الببّغائي. هذا إن لم يخفوا اقتباساتهم حتى لا يقال عنهم إن لهم أفكارا مستوردة بمنطق السلفية المتحجرة المغلقة داخل القرون الوسطى.

عندما بدأت قراءة كتاب المفكر المغربي الرائع عبد السلام شدّادي، حول “ابن خلدون، الانسان ومنظّر الحضارة”، فكرت أن أفصح عن هذه المعلومة المغمورة حول “المراكشي” الاسباني ميغيل سيرفيت بصدد “كلب جهنم ذي الرؤوس الثلاثة”: التثليث الغرب الذي شوه إيمان المسيح عليه السلام. فمن عبد السلام شدّادي اقتبست عبارة “الحصن المقدس” (عن الحميمي ودواخل الضمير عند المشارقة في سيرهم الذاتية). فللغرب “حصنه المقدس” يجب بسط معطياته بدل التوقف عند خطوطه الغربية الحمراء.

لا يمكن تطبيق منهجية الاصلاح الديني في المجتمع الشرقي إذا لم يتم طرح تناقضات الاصلاح الديني الغربي نفسها. كي نتجاوز الاقتباس والتمثل الى عينية القضايا المجتمعية المحلية. فالروح عندما نقلوا ميكانيكيا علمانية الثورة الفرنسية الحادة فشلت ثورتهم في بناء اشتراكية إنسانية مبدعة. وأغلق قوس ثورتهم بعد سبعين سنة من القوة السلطوية.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى