ثقافة و فن

احمد حبشي: في الحب والسياسة

الحب بكل معانيه لا يعرف ألق توهجه إلا عند البدايات ، ترهقه النهايات ، وتصبح كل لحظاته شظايا وأشجان لمشاعر عابرة هدتها الأيام وصارت زفرات وآهات . فكرة أستوقفتني وأنا أقرأ رواية مراد الضفري  ” ملتخوليا  أنت او لا وطن” ،  وأخذتني إلى تأمل رهيب حول ما يخفيه حب جارف من قسوة وما يخلفه من نذوب وانكسارات عميقة مدمرة. قصة ليلى وطارق في الرواية تتجاوز مجال الحكاية إلى مستوى المفاهيم وشروط تشكل العلاقات وسياقاتها ، فورة البدايات اجمالا تفتح آفاقا شاسعة وتبدد كل مخاوف الشك في المآل .                     ككل الروايات التي تحكي عن اللواعج ،  تستعيد رواية مراد الضفري البدايات من حطام النهايات ، تحاول استعادة بهاء اللحظات الضاجة بلهيب المشاعر وهيام الذوات وانصهارها ، تنتقل هكذا من فيحاء زمن مرتجى إلى صقيع زمن ذميم . على هوامش الزمنين تقف ليلى تتلمظ خيبة مآل أحلام حملتها كل أمانيها بعد أن عمدتها بتصورات يقينية مسنودة بأفق وردي تمتزج فيه أحلام الثورة بتفتق نسائم الحياة . في المقابل ينزوي طارق الثوري الذي يحمل انكسارات مسار نضالي متعدد الجبهات، يتلظى بين نار الحيرة وسراب اليقين ، تتقاسمه شظايا اللوعة ولوثة الهزيمة، لا هو حافظ على صفاء مشاعره وصان جلال الود، ولا حقق مقاصده النبيلة في الحرية والتحرير . من أجل فلسطين ترك حبيبته وانخرط في صفوف المقاومة ، بعد أن ألهب فضاءات الجامعة بشعاراته الثورية ومواقفه الجسورة . في لحظة وعي حادة أصبحت فلسطين قضية أولى تقتضي كل التضحيات، كان القرار حاسما، علق كل التزاماته وشد الرحال لمآزرة شعب فلسطين وللمساهمة في دحر العدوان . بعد قصة حب لاهبة توافق ليلى على قرار تعليق العلاقة حتى النصر أو الشهادة . حافظت على بدرة الحب في أحشائها عربون إخلاص ودليل وفاء لعشق سكن كل جوارحها، ملك كل تفاصيل أيامها. كان طارق كل شيء في حياتها وصارت تعيش على وقع الذكرى أكثر مما تنعم بصخب الحياة في شروط عيشها الجديدة وما آلت إليه أحوالها. فزواجها من جلال لم يكن سوى صيغة مجتمعية اقتنعت بضرورتها، لم تكن مشاعر زوجها تعني لها أي شيء. جسد حاضر والفؤاد تسكنه زهي الذكريات، ترى طارق في كل شيء حتى في أدق التفاصيل ، أصبحت حياتها معلقة بين حب تلاشى وحياة رتيبة بلا معنى. حافظت على كل تقاليد ازهى اللحظات التي قضتها في الجامعة مناضلة جسورة، تتقدم كل التظاهرات والمظاهرات جنبا إلى جنب مع شقيق روحها، تعهدا على الود والنضال من أجل مجتمع سعيد تسوده العدالة الاجتماعية ويضمن حق الكل في الحرية والإنصاف. انفلت منها خيط الود وبقيت وفية للفكرة وتاريخ نضالها المجيد. يعود طارق من تجربته في صفوف المقاومة منهوك القوى تائه بين عاشقاته وذكرياته اللاهبة مع ليلى لا يلوي على قرار. ليلى تسكنه وينصاع لرغبة أماليا اليهودية التي تقنعه بالعيش في إسرائيل حيث تقيم كمواطنة مزدوجة الانتماء، مغربية / اسرائيلية  وحيدة أبويها واختارت ان لا تتركهما يعيشان معزولين في تل أبيب، في لحظة انتصر فيها الحب على الانتماء السياسي والاختيارات الايديولوجية. هنا يتقابل الحب والسياسة، هل السياسة تقتل الحب آم الحب يهزم السياسة ؟ الحب في السياسة تتعدد معانيه وتتقدم فيه حالة على أحوال، وأحيانا يصبح بلا معنى أو عائقا لتطور الفعل السياسي. فمن أجل تحقيق أهداف سياسية يغادر طارق ليلى، ومن أجل حبها الصاخب تبتعد ليلى عن السياسة بعد أن فقدت فورتها النضالية وحلمها الثوري صارت كما تقول عن نفسها  ” هذه الليلة ايضا كنت كالحاضرة الغائبة على مائدة العشاء  في بيتي ، للحظة بدا لي المشهد وكأنني رأيته من قبل. نفس حركات جلال زوجي وكلامه وانفعالات ليال وطريقة أكل أمي فاطمة مربية ليال. كل شيء كان وكأنني رأيته من قبل. شعرت باضطراب وبدوار في رأسي وأنا أتخيل حياتي وقد صارت مسلسلا من التهيوءات والشرود في ذكرياتي مع طارق …. أتنتهي كل قصص الحب الفاشلة بأمراض نفسية وحالات اكتئاب؟ ” (ص 30) هي دوامة جعلتها تركز كل تفكيرها على كيفية تجاوز حب جارف سكن  دواخلها.

طارق لا يخفي تدمره مما انتهت إليه تجربته السياسية، لا يترك فرصة دون أن يثير ما أصبح يشبه قناعة لديه، بأن  لا جدوى من مواصلة البحث عن معنى للحياة، وأصبح يعتبر أننا ” مجرد مسافرين عابرين في الزمان والمكان … بين الولادة والموت لا نملك سوى الوهم وأشياء زائفة لا تعرف البقاء إلى الأبد. الوطن فكرة وهمية أو حيلة قديمة من حكام وزعماء العالم ليلقوا علينا خطبهم ويشعروننا بالانتماء وبأن لنا أرض وخرائط ورقية توزع علينا حقن الاستقرار والوطنية تارة وتدفعنا حطبا لحروب الملوك والأمراء تارة أخرى” (ص 40) أفكار شاردة ، وعي حاد تملكه في لحظة انهيار، في السياسة ضيع حب ليلى وفقد معه كل إحساس بما حوله ويصير شبه واثق بأن ” هناك من يأتيه الحب محملا بالورود والأحلام الجميلة وآمال جديدة، ينقله من عالم الشتات والضياع إلى عالم هادئ وجميل. أما أنا فالحب لا يسلك دربي إلا مدججا بالرصاص ومفخخا بالقنابل الحارقة للقدر. يأتيني الحب كداعشي يشحذ سيوفه لنحر قلبي في مملكة النساء . أنا بكل بساطة لا قدر لي في الحب وليس للحب من قدر معي … او ربما الحب الذي أنتظره أكبر من أن يجسد في امرأة واحدة” ( ص 44)

باقي شخصيات الرواية تربطهم بليلى وطارق وشائج النضال، ثلة من الشباب ترعرعوا  في أحضان اليسار وعاشوا فورة تجدد انطلاقته وصخبه النضالي في الجامعة ، كافحوا من أجل أن ينتصر الحلم على الواقع أن يصير الحال غير الحال ،حيث يعيش الانسان حرا كريما في عزة ورخاء ، حلم سكنهم وانخرطوا بفعالية في الحركية المجتمعية النضالية من موقعهم كطلبة ،  يحملون تصورات اعتقدوا بقوة في بنيتها النظرية وأسلوبها لحل مختلف القضايا المعيقة للتطور. وفي مسار تجربتهم الحياتية فرقت بينهم السبل، صدهم واقع عنيد منفلت  من كل تحليل نظري جاهز ” خرجوا من الجامعة بأمل مواصلة النضال في الحياة و مشاريع المستقبل فما لبثوا أن تاهوا في في دوامة الزمن وانكسرت أمانيهم ” ( ص 95) كما جاء في تقييم طارق وهو يتأمل مساره ومسار ثلة من رفاقه . فسعيد المناضل الماركسي الذي عاد من هجرته إلى ألمانيا ليجد حبيبته ورفيقة دربه النضالي أسماء، قد تزوجت من رجل غني  وأصبحت تدير مشاريع رأسمالية وهي التي كانت “تناضل ضد الرأسمالية وتصف البرجوازية بالمتعفنة” أصبحت تربط الحب بثروة الحبيب،  واجهته حين قابلها بحقيقة شلت كل تفكيره وأدخلته في دوامة لا يعرف لها قرار ” لو كنت قد عدت من المانيا وأنت أغنى من خطيبي لكنت فسخت خطوبتي فورا لأتزوجك” (ص96) ، حبها له أصبح جزأ من الماضي الذي لم يعد يعني لها شيئا، تركت كل ما كانا يعتبرانه قيما عليا تجمعهما، واستعادت عنه بما يستجيب لحاجاتها المادية وتطلعاتها الخاصة. من هذه الزاوية يسعى مراد الضفري إلى إبراز جوانب من لحظة انهيار يعيشها جيل من المناضلين ، جمعتهم النظريات وفرق بينهم الواقع الذي حاولوا التمرد عليه وتغييره .

في رواية ” أنت ( التاء مفتوحة أو مكسورة) أو لا وطن” الحب يعلو على السياسة ، يسمو فوق كل قضايا الوطن ، هي نظرية “الملنخوليا” ، حيث يصبح العمل السياسي بلا جدوى حين يفقد فورة الحب ولحمة الروابط الإنسانية، وهو ما يعني أن العلائق ظل يحتويها واقع خاص محكوم برؤية مجتمعية ، في حين أن العمل السياسي فتح مجالات ذات صلة ضعيفة بواقع تسعى إلى تغييره

بهذا المعنى فإن الرواية تطرح أكثر من سؤال حول تجربة نضالية مفعمة بالتضحيات ونكران الذات ، من ذلك أن  نظرتها لم تكن شمولية لواقع مثقل بالكثير من الرواسب والمعيقات المجتمعية، التي تقتضي السعي لاستكشاف روابطها المتعددة لبلورة قناعات مرتبطة بمستوى التطور المجتمعي وآفاقه.

الملنخوليا  أنت أو لا وطن” رواية في 250 صفحة، صدرت في مارس 2018 ، تعتمد في حكي الوقائع على راويين يقص كل منهما جوانب من حياة عاشاها معنا، يبرز كل من زاويته تفاعله مع مخلفات علاقة حب وتجربة سياسية كان لها الكثير من التداعيات ، قسم الكاتب فصول الرواية بالتساوي تقريبا بين الراويين ، مفسحا المجال لكل منهما للكشف عن  ما خلفته تجربتهما من الأثر على مسار حياتهما.                                                  اختار الكاتب غلافا بألوان باردة، يحمل الكثير من ملامح الإشكال الذي يسعى إلى إثارته في النص، جسر عبور فوق نهر شاسع الضفاف، أوضاع العابرين مختلفة، في مقدمة الصورة ملامح رجل يصرخ أو يؤدن، وللحالتين معنى في النص في الحالة الأولى القلق وانسداد الأفق وفي الحالة الثانية اختيار العودة إلى السياق العام السائد في المجتمع كخلاصة محتملة يستهدفها النص

أحمد حبشي أكتوبر 2019                                

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى