وجهة نظر

هل يشكل المغرب مع السعودية التوأم العربي للتوجه نحو الصين؟

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(37):

صرح رجل أعمال سعودي وقبله وزير الخارجية السعودي من قبل أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول للسعودية، كما أن السعودية تعمل على ملاءمة برنامج 20-30 مع برنامج الصين الحزام والطين، وخصصت لذلك قيمة مالية عملاقة تصل إلى ألفي مليار ريال.

في المغرب، تلتقط مراكز القرار الاستراتيجي التحول السريع الجاري على صعيد النظام العالمي ومداخله ومسالكه. فقد كانت جائحة كوفيد مرحلة تأمل ومراجعة ثم ما لبث أن دخل العالم في التحول السريع مع حرب أوكرانيا. لم يصل التحول مرحلة الاتفاق وهندسة مربعات المصالح العالمية الكبرى بعد، لكن، لكنه في مرحلة شد الحبال وقطع بعضها وتوثيق جديد لحبال مغايرة، بشكل غير معهود. من غريب المستجدات أن الأنظمة العربية المحافظة التي كانت دائما داعمة للغرب، هي التي تنوع اتجاهاتها وتساهم في رسم مسالك المصالح بتوازن غير معهود، هذا لا يعني أن بعضها كان عديم المبادرات في السابق (السعودية، المغرب)..لكن ما يشجعها اليوم أكثر، هو اعتدال لغة الصين وروسيا، رغم عمق الصراع الدولي الذي يبقى “في جميع الأحوال” تحت سقف الرأسمالية العالمية.

فهل يتجه المغرب فعلا نحو الصين هذه المرة لبناء الخط الرابط بين الدار البيضاء وأكادير، كما يشاع، بدل فرنسا، تبعا للخبرة والعرض فالسوق العالمي؟

***

 لنتخيل بلدا يشهد حركية تشييد 3000 كيلومتر من سكك القطار فائق السرعة، كل سنة. نعم كم تصل الميزانية السنوية للوزارة المعنية؟ وكم من الأموال التي تصرف على مختلف المواد التي تدخل في تهيئة التربة طولا وعرضا، ومعها سبائك الحديد والربط الكهربائي، وعدد الشاحنات والآليات والأنفاق والقناطروإدارة تدبّر أمور أكثر من مليوني مستخدم…لقد راكمت الصين في قطاع القطار السريع خبرة نموذجية.

قبل 14 سنة فقط، بدأت الصين (2008) بناء خطوط القطار فائق السرعة، أنجزت ساعتها في البداية أقل من 1000 كلم من السكة الحديدية (TGV) وخلال السنوات 14، من 2008 إلى 2022، صارت تمد خطوط القطار فائق السرعة (TGV)، سنويا بما يقارب 3000 كلم سكة حديدية. لنتخيل القيم المالية الهائلة لتوفير العتاد وتنفيذ أشغال التهيئة الطبوغرافية.

وحدها الصين تملك 83 في المائة من مجموع ما يوجد في الكرة الارضية، معناه أن الولايات المتحدة وأوربا وكل مجموعة السبع الأكثرG7 تصنيعا، وكذا مجموعة العشرين G20، أو ما يمكن إجماله ب199 دولة تملك 17 في المائة والصين وحدها تملك 83 في المائة من المجموع العالمي. وحدها الصين التي تستعمل خطوط  في السفر ليلا. لأن الصين وحدها من يمتد الخط السريع الواحد أكثر من 2000 كلم. وبها خطوط لا يجري فيها القطار السريع أقل من 350 كلم/س، تصل في المجموع الى ثمانية آلاف كلم. بينما تتراوح 30 ألف كلم الأخرى بين 200 و350 كلم/س من حيث السرعة. بدأت أول مرة بمنتوج سويدي (1998)، وفي السنة الموالية أخرجت الصين قطارا محلي الصنع للوجود. علما أن التفكير في استعمال القطار فائق السرعة بدأ منذ سنة 1990. لتكون تجربة الصين في صناعة واستعمال القطار فائق السرعة منقسمة الى مرحلتين: ثماني سنوات من التفكير والتخطيط والبرمجة الهادئة، و14 سنة من التنفيذ العملي الفائق السرعة.

***

لماذا الحرب على زعيم الصين الحالي؟

كعادة الزعماء الصينيين، ينسجون الشعارات السياسية المركزية في صيغ بلاغية يفهمها عموم الشعب الصيني، نتذكر شعار ماوتسي تونغ “دع مائة زهرة تتفتح، ومائة مدرسة تتبارى”، وشعار دينغ سياو بينغ “لا يهم لون القط، المهم هو قدرته على صيد الفـأر”، وشعار الرئيس الحالي هو “صيد كل كائن مضر في الغابة الصينية، من الذبابة إلى النمر”.

لم يستطع الحزب اليساري الحاكم في الصين أن يصمد أمام الخبرة الرأسمالية الغربية العالمية بل ويخترق بنيتها الصناعية واستراتيجياتها الإدماجية، سوى بابتعاده عن الخطاب الماركسي المستورد الجاهز. ولسوف يأتي اليوم الذي يظهر فيه الغرب غصنا متأخرا ضمن شجرة الحضارة الإنسانية العظيمة. فقد احتفظ الحزب الحاكم في الصين بآخر ثمرة أنتجتها الحضارة الحديثة بعد الرأسمالية وهي الاشتراكية، وأدمجها بأقدم منتوج حضاري اقتصادي مشترك بين الأمم سوق التجارة لينتج ما أسماه “اشتراكية السوق”. لكن التفت إلى كون الرأسمالية وهي تضلل الشعب لإخضاعه لألاعيب الرأسماليين عبر كذبة “اليد الخفية” في السوق، وهو ما كان قد كشف مغالطته المنظر الاقتصادي اليساري السويدي غونار ميردال في أربعينات القرن العشرين.

أغمض قادة الحزب الحاكم في الصين العين على الجشعين من بين أطره الذين تفاوضوا مع الغرب لجلب التيكنولوجيا، وفي كل مرحلة، يستعيد الوعي بحكمة “سور الصين” الذي يحمي الصينيون أنفسهم من خلال ما يسمونهم ببلاغتهم اللغوية لتقويم السياسات العمومية بتشذيب الاقتصاد من الأعشاب الضارة.

باسم حقوق الإنسان يتابع الغرب الأحداث الصينية، فيعتبرها من بين البلدان التي توجد في الصفوف الأولى في الحكم القضائي بالإعدام. ويرجع ذلك، الى سياسة الصين في مناهضة الارتشاء بين أطر الشركات الذين يتقاضون رشاوي بقيمة أكبر من 25 مليون سنتيم مغربي. فتقاليد القضاء إصدار أحكامٍ بمثابة الضريبة التصاعدية، كلما كان قدر الرشوة مرتفعا كلما ثقلت العقوبة على المرتشين.

وفي عالم السكك الحديدية الصيني، الذي يشغل أزيد من مليوني عامل ومستخدم وإطار، اتبع الرئيس الصيني الحالي عندما تقدم مرشحا للرئاسة، سنة 2013، شعار تقوية وحدة الصين، شعبا وترابا، عبر تقوية شبكة السكك الحديدية، عموديا (خطوط الطول) وأفقيا (خطوط العرض).

كان عليه، أولا، أن يجدد حضور الايديولوجية الاشتراكية، ليحاصر من تغلغلت في أدمغتهم الانتهازية الفردانية، وكانت إدارة السكك الحديدية من أعشاش الفساد المستشري وعلى رأسهم وزير السكك الحديدية، ليو زهيجون، الذي تولى المسؤولية سنة 2003، تحت مسؤولية الرئيس السابق هوجينتاو، الذي ظهر أواخر المؤتمر الأخير، وهو يسحب خارج قاعة الجلسات.

كانت قضية ليو زهيجون، أكبر فضيحة فساد في الصين ما بعد ماوتسي تونغ. محاكمة الوزير أسفرت عن قرار الإعدام مع وقف التنفيذ، وسبع سنوات سجنا للمشتركين في الصفقات الفاسدة والمستفيدين منها.

كانت مسيرة بناء خطوط القطار السريع بطيئة بحيث لم تزد عن ألف كيلومتر سنة 2008، وبعد التغيير السياسي والإداري، انتقل طول خطوط القطار فائق السرعة، خلال 14 سنة (2008-2021) إلى 40 ألف كلم. بينما يتقاسم العالم 10 آلاف كلم. نظرا لاعتماد الغرب على الخطوط الجوية.

إن حادثة الرئيس السابق هُو جِينْتَاوْ في آخر جلسة من المؤتمر (20) الأخير للحزب الشيوعي الصيني، ترجع إلى اختلاف وجهتي نظر حول الانفتاح: إما الانفتاح كما دشنته الصين في عهد دينغ سياو بينغ، أو الاستمرار في الانفتاح، لكن مع تشذيب مظاهر الفساد المرافقة للصفقات الخارجية. فالغرب يراهن على انهيار الحزب الحاكم من الداخل، ولو ببطء. ويسعى لتكرار تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي.

بينما تسعى الصين إلى تشكيل نوع من الاشتراكية على الطريقة الصينية بالفصل بين النظامين الرأسمالي (هونك كونغ، ماكاو، طايوان) والاشتراكي (عاصمته بيكين) تحت سقف نفس الدولة.

كانت الأصوات الليبرالية كلها تنعت الصين بنظام الحزب الوحيد الذي يقف همه عند الاستيلاء على الحكم في بلده. وكان ترديد تهما جاهزة حول تكميم الأفواه، ولم يتحدث أي ليبرالي عن مكاسب التعليم والصحة والشغل في الصين الدكتاتورية وآفة الأمية والأمراض والتلوث والبطالة في الهند الديمقراطية.

أخيرا، درس الصين درسان:

الدرس الاول، الانفتاح الذي تضمن البراغماتية مع الغرب لجلب التكنولوجيا وتحويل الصين الى مركز الاقتصاد العالمي، مقابل إغلاق باب الايديولوجيا في علاقاتها الدولية والتركيز على منافع الصين ومعادلة رابح رابح

الدرس الثاني، مواصلة الانفتاح مع تشذيب إدارة الأعمال من الفساد باستمرار، والعودة الى تخصيب الأطر بمضمون الأهداف السياسية الوطنية، بعدما مر الانفتاح بأولوية تطعيم صفوف الحزب بأجود الأطر دون اشتراط المواصفات الايديولوجية.

الخلاصة= عندما يذكر الإعلام العالمي الرئيس الصيني الحالي، يذكرون معه برنامجه القاضي بدمج السياسة الصينية بالرصيدين: رصيد دينغ سياو بينغ القاضي بالاندماج في النظام الاقتصادي العالمي للاستفادة من التحولات التكنولوجية في البناء الصناعي، ورصيد ماو تسي تونغ القاضي بحفظ النظام والمجتمع الصينيين من التغلغل الثقافي الغربي المبني على تبعية الانسان للرأسمال والعودة الى قيم العمل والانتاج بدل اعتماد قيم المضاربة المالية والربح الفردي على حساب الأمة والوطن. وهي الخلاصة التي أشارت إليها حادثة الرئيس السابق هوجينتاو. أي طي مرحلة رصيد دينغ سياو بينغ وحده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى