الحق في التعليم والتكوين والتشغيل والتنمية والسياسة التعليمية في المغرب (القسم الأول) ذ.عبد الواحد حمزة

جرت العادة أن يستدعي نادي التربية على المواطنة وحقوق الإنسان بتمارة- المغرب نخبا فكرية وحقوقية وتربوية للخوض في موضوعات مختلفة ذات الصلة بتنشئة “الجيل الصاعد”وللرهان عليه، فكان أن استقبل يومه السبت 25 يناير 2025 ثلة من الأساتذة المهتمين بالشأن التعليمي والحقوقي، السادة عبد الواحد حمزة و عبقادري نور الدين ومبارك عثماني للتداول التحليلي- النقدي في موضوع : “الحق في التعليم والسياسة التعليمية بالمغرب”.
سير اللقاء ونسق النقاش بحنكة الأستاذ بوحميدي مولاي الحسن ( أبو علي)، رئيس النادي، و لم يفت النادي أن استقبل الحضور بكلمة نيرة ومقتضبة في الموضوع باسم كل أعضائه.
كانت تلك طريقته/ النادي الخاصة للاحتفاء بمناسبة غالية على الأساتذة ورجال الإدارة التربوية وتلاميذ المؤسسات وآباء التلاميذ: مناسبة اليوم العالمي للتعليم..!
نقدم هنا نص المداخلة التي تقدم بها الأستاذ عبد الواحد حمزة، حيث فحوى الإشكالية التي يود المساهمة بها كالتالي:
اعتمادا على نتائج الإحصاء الأخير لبلادنا ( 2024)، كيف للانتقال الديموغرافي، الذي خضنا فيه لما يزيد -من الآن- عن ثلاثة عقود، أن يؤسس لإقلاع اقتصادي- صناعي واجتماعي وازن، مقارنة مع بلاد النمور…! ؟
كيف لبلادنا أن تحول ما يمكن اعتباره نقمة وعبئا ديموغرافيا إلى نعمة وطفرة اقتصادية واجتماعية نوعية، مرورا بترسيخ ثلاثية الحق في التعليم والتكوين والشغل وسن لسياسة في المجال تعمل على تسييد تكافؤ الفرص والإنصاف والعدالة الاجتماعية؟
وإن كان كل ذلك يتم في سياق وطني ودولي ضاغط و حرج ومناف يطلق التخطيط لصالح الخطط والسوق والعولمة، و في سياق عام يتنكر لقيم العصر والحداثة، بحيث اعتبر الدكتور “الحق في التعليم” المبدأ الأول والأساس للنهوض بتلك القيم الكونية، جميعها ….؟
نص المداخلة/ الـمقـــدمــــــــة
يسرني أن أقدم أمامكم بعض المعطيات و بعض العناصر للتأمل والتفكير حول موضوع الحق في التعليم والسياسة التعليمية في المغرب.
وقبل أن أطرح الإشكالية التي أود تقاسمها معكم جميعا، أرى من المناسب تحديد ولو بعجالة معنى المفردات الأساسية في الندوة: الحق في التعليم، وكذا السياسة التعليمية، وإدراجها في السياق الوطني المغربي، بالذات.
ثم لاشك، بداية، أن الموضوع ذو راهنية كبرى. وفضلا عن شرط المناسبة، فهو موضوع يقض مضجع الدولة والمجتمع، معا، لما له من أبعاد تروم مصير مجالي التعليم والمعرفة، وما يتطلب ذلك اليوم، تحت ضغط الأزمة العامة لبلادنا، من ابتكار وإبداع في مجال من الحيوية والرهان الاستراتيجي للأفراد والأسر والدولة والأمة العربية- الإسلامية بمكان، ألا وهو مجال التربية والتعليم والتكوين للأجيال القادمة.
كما أن له علاقة بكيفية صناعة القرار التعليمي- التكويني- التشغيلي للموارد البشرية في/ و لبلادنا، اليوم وغدا، وهو بالطبع جوهر السياسة التعليمية، واعتماد الحساسية وكل الأثر الذي يخلفه الاندماج الكامل لبلدنا في العولمة، وانعكاسات ذلك على مستوى السيادة الوطنية.
ولهذا يبدو أن اختيار الموضوع من طرف النادي- أعلاه، موفق لا محالة، في هذا الظرف بالذات من تاريخ المغرب والمنطقة وتاريخ السياسة المعتمدة في التعليم…، ببلادنا والعالم.
وهو ما حدا بنا أن نتطرق من زاويتنا للسياق العام الذي يحدد طبيعة وشكل ودرجة تحقق حق التعليم والسياسة التعليمية في بلادنا، على أن المشكل ليس في التعاريف الاصطلاحية، وهي مهمة، وإنما في فهم مال الحقوق المعتمدة دوليا والمصادق عليها وطنيا، في ظرف كسيح أو يكاد، يتنكر فيه الحاكم، مطلقا أو نسبيا، لها، وهي الحقوق التي لا تقبل الطعن، و تحت مصوغات لا تصمد للنقد. ولهذا سنعالج موضوعنا في قسمين، الأول يبسط السياق الإحصائي- التأويلي العام للموضوع، والذي سيسمح باستقراء وصياغة الإشكالية المراد بناؤها واقتراحها للنقاش، والثاني سيعمد إلى مناقشة نقدية لبعض الاصطلاحات الرسمية في الموضوع وسفه المدافعين عنها، لنركب في الأخير- خلاصات وخواتم وآليات للتجاوز، أي أن ندلي بدلونا في مدى إمكانية حصول توافق بين أبعاد المشكلة الديموغرافية- الاقتصادية-الاجتماعية في المغرب، على ضوء نتائج إحصاء السكن والسكنى الأخير (2024).
القسم الأول: السياق والإشكالية
- السيــــاق العام: ما يمكن أن تنطق به المعطيات الراهنة
لصياغة سؤالنا المركزي، لا بأس أن نعتمد بعض المعطيات الإحصائية الراهنة، وإن كان ثقل الماضي وارد في القطاع، قيد الدرس، لاشك.
فحسب الإحصاء العام للسكن والسكنى(2024)، نعلم أن معدل الولادات- الخصوبة انخفض، في بلادنا إلى 1,9%، وهي نسبة أقل من مستوى تعويض الجيل، وهو أمر من اللازم أن يساءل الجميع حول نجاعة الاختيار العمومي، وقد يشكل خطورة على حجم الساكنة المغربية في أفق الإحصاء القادم، وإن هي نسبة تعني أساسا مستوى الدول المتقدمة، كاليابان أو كوريا الجنوبية، وغيرهما. كما أن نسبة الوفيات انخفضت أيضا لتحسن مدى الحياة، نسبيا، لدى العموم.
وهو ما يعني أن المغرب عرف خلال 30 سنة أو أكثر الأخيرة “تحولا بنيويا ديموغرافيا”. ونحن الآن في مراحله النهائية والحاسمة، حسب الخبراء الديموغرافيين، لما يعبر عنه من مفترق للطرق وحساسية للرهان. و بالتالي، فإن نسبة الولادات انخفضت، لتعرف نسبة الأطفال، اقل ما 15 سنة، انخفاضا ملحوظا.
وبالنسبة للشيوخ، فهي في ارتفاع ملحوظ، لإرتفاع الأمل في الحياة لديهم، ومن ثمة طول العمر، نسبيا. ويمكن تسجيل 7 مليون فردا ما بين 15 و60 سنة، ممن هم في سن النشاط- العمل، نظريا. كما توجد 15 مليون منهم في بطالة فعلية، ناهيك عن المقنعة، منها، بحيث يمكن إحصاء 13 مليون عاطل، اليوم، تقريبا. أما الشيوخ، فيمكن أن يتعدوا العشرة إلى 15 مليون فرد. ويوجد أكثر من 7 مليون تقريبا في حالة أمية مقيتة، قراءة وكتابة وحساب.
ومن المعلوم أن من لا يستعمل البرمجة أو يتفقه- اليوم- في الذكاء الاصطناعي، فهو نسبيا أمي بالمعنى المعاصر. فضلا عن أن استعمال “البورطابل”/ المحمول/ الخليوي، أكان في القرى أو لدى بعض الفئات، الشعبية خاصة، لا يعني أنهم مسحوا الجهل عنهم، وقد لا يكون لذلك ارتباط ما بالإنتاجية العامة أو لأحد عناصرها، أو له علاقة بالتفاخر، فقط.
كما يلاحظ تواجد البطالة في صفوف أصحاب الشهادات، ضدا على حظ من هم في أمية مطلقة أو نسبية، وفي بعض الانشغالات، وفي هذا دحض اقتصادي-نسبي أو مطلق- لنظريات في المعرفة تنوه بدون حد بقدسية وسمو التكوين النافع… المؤدي حتما إلى شغل مأجور !
فكثيرا ما تفضل بعض الشركات الرأسمالية أو في الظل تشغيل من هم في مستوى تعليمي ادني، أو لا تأخذ إلا بالمستوى الأقل لمن له مستوى أعلى…، استغلالا له، أو تشغيلا له في مستوى إنتاجي فعلي اقل مما يستحقه، أو تستفيد عمليا من مستوى تعليمي عال له وتبخيسه على مستوى الأجر المادي- النقدي…!!، وذلك نزر من موضوعات إقتصاد وإجتماع التربية المعروفة لدى المختصين…!
ويبدو أن المغرب لم يجز بعد انتقاله الديموغرافي، مما ينعكس سلبا على نموه الاقتصادي الاجتماعي. فوثيرة ارتفاع الناتج الداخلي العام لم تتجاوز سنة 2024 نسبة 0,85%، بعد أن سبق وسجلت 1%، أو 2%، لا أكثر. وهي نسب ضعيفة في كل الأحوال، وأن النمو الاقتصادي الواعد هو الذي يستمر لأكثر من عشر سنوات في تحقيق مستوى 7%، فما فوق…!!
كما أن ساكنة المغرب عرفت ارتفاعا هزيلة في العشر سنوات الأخيرة، ربما كما كان مخططا له، من 34 مليون الى37 مليون الغير. ولا يجب أن تفاجأ، إذا استقر هذا الر قم في نفس النسبة، العشر سنوات القادمة، وما تتوجس مدونة الأسرة الجديدة تحقيقه، باسم الحداثة…. !!
وبالنسبة لنسبة التمدن، فتدور حول 63،% ، بحيث يوجد 23 مليون فرد في المدن و14 مليون في القرى، لا أكثر. ومن الواجب ملاحظة أن هذا النمو شكلي، في أغلب الحالات، وإن التمدن لا يعني التحضر..والعيش في المدن لا يعني التشبع بقيم الإنسان. حتى أن أقواما قوية وإمبراطوريات كبيرة- ميغا ومتمدنة، كالولايات المتحدة، لكنها متوحشة، أنانية، استعمارية، امبريالية، همجية العلاقات الخارجية، متغطرسة وغير متحضرة…!
وحتى أيضا إن بدوا يهاجروا ويحلوا في المدن دون أن يقطعوا مع قيم البداوة، ويسموها في ما يمكن اعتباره حسب السوسيولوجيا القروية- ب”قَرْوَنَةُ المدن”، أي إغراقها في سلوكات عيش وتعامل في المدينة ما قبل-حضرية. وكم يصعب التنصل من عادات وتقاليد عنيفة لا تتماشى بالضرورة مع متطلبات المدن، خاصة في غياب قواعد تربوية شمولية و تنظيمية عامة وملزمة للجميع…
ولكن لا يعني ذلك أبدا أن كل قيم البدو، من كرم الضيافة والنخوة والأنفة، ممن أبقت عليها كلفة الحياة المدينية المادية الجهنمية والصعبة، وبساطة- شظف العيش ونمط التدبير القبلي الجماعي…لا، أبدا لا يمكن اعتبارها كلها أمور متأخرة وغير حضارية…. وللعلم، فالمدينة تعيش في الكثير من مظاهرها الحياتية- الحيوية والبراقة على ظهر تواضع البادية واستغلال أهلها…
أكثر من ذاك، من اللازم أن تطلب القرى حقها من التمدن ( المدن الصغيرة/ شبه المدن، الأنشطة الحياتية و الاقتصادية خارج أغلفة المدن الكبرى،…) والتحضر…بتوزيع التنمية المستدامة عليها وعلى جنباتها، و بتحقيق شروط الرفاه الأساسية لأبنائها/ بناتها، من تعليم وصحة وشغل…متلائم مع حاجياتها…والخروج من ثنائية المغرب النافع وغير النافع، المقيتة، الموروثة عن الاستعمار والمكرسة اليوم مع أذنابه…
كما سجلت المندوبية السامية للتخطيط، منذ مدة، ما يزيد عن أربعة مليون شاب وشابة لا يقرؤون ولا يعملون…لا هم لهم، مما حدا بأحد السوسيولوجيين أن يسميهم ب”الحيطيين”hitistes، لوقوفهم المستمر بالحائط، صباح مساء، وعلى رأس/ ركن أزقتهم و في أعتاب دروبهم، يضيعون ببطء….أو يستغلون في أنشطة سرية قاتلة، في انتظار غودو،… الذي أتى والذي لا يأتي..!!.حتى انه يصعب إلحاقهم -أو إلحاق أنفسهم- بأي نشاط نافع أو للدفاع الوطني، أو إعدادهم لأي خدمة وواجب عمومي ما…أو حتى للبلطجة إبان الثورات المضادة…!!!
ليس غرضي أن أقدم سبورة سوداء للاقتصاد والمجتمع المغربيين، لمستوى إقتصاد المعرفة، على الخصوص، بما يعنيه من مدى جودة وحجم موارده البشرية-رأسمالها البشري، وهل يمكن التعويل عليها، بقدر ما اذكر بإحصاءات رسمية، واعلق عليها، قصد دفع النقاد والمحللين والمختلفين في التقدير ، لتأملها و مناقشة المقاربة التي أقدمها في الموضوع، لاستخراج بعض الدروس من ذلك.
2 – الإشكالية العامة: علاقة الانتقال الديموغرافي والطفرة الاقتصادية الاجتماعية بالمغرب
إذا كان المغرب اليوم في آخر مراحل انتقاله الديموغرافي، وهو المسار الذي سلكه لما يزيد عن ثلاثة عقود، أي أنه مسار طويل وثقيل ولا يمكن استبداله بين عشية وضحاها. ومن الصعب أحداث تحويل ما، وإن تطلب ذلك تغيير الخيار الإستراتيجي المتبع ببلادنا باختبار سياسي جذري عام آخر، أكان في التعليم والتكوين والتشغيل أو آخر، وأن تمت الحكامة الجيدة في ذلك، فالسؤال المطروح هو:
كيف ولماذا لهذا الانتقال الديموغرافي أن يؤسس لإقلاع اقتصادي واجتماعي وازن، يضع بلادنا في مصاف دول النمور الشبه صناعية الصاعدة، خاصة وأنه إلى حدود الثمانينات من القرن الماضي، كان المغرب في مستوى تأخر الصين وكوريا الجنوبية، وغيرهما، وخاصة أن البلدان التي حققت طفرتها الديموغرافية استطاعت حقا ، وبموازاة ذلك، أن تحقق طفرة اقتصادية واجتماعية؟
كيف ولماذا يمكن لبلدنا أن تعمل على تحويل ما يمكن، حقا أو غلطا، اعتباره عالة ديموغرافية، ثقلا ونقمة ديموغرافية إلى نعمة ديموغرافية، الانتقال من Malus démographiqueإلىBonus démographique، إلى رافعة لمن هم في سن النشاط- العمل، أي إلى فاعل في النمو الاقتصادي للناتج الداخلي العام؟
يبدو أن ما يهدد بلدنا هو أن يضل تحوله الديموغرافي -في الأفق المنظور/ القريب- عبارة عن عقوبة وعالة ديموغرافية، لا يرجى منها خير، ومتى كان العبء -بربك- مالتوسيا يستدعي الحروب والزلازل والإبادات والدمار للإنسان والحيوان والنبات، أي وبالا على الحياة، خاصة إذا إستدعينا تجربة الصين الديموغرافية الحرجة الصاعدة والمقلقة، في آن، للقوى العظمى، كأمريكا- الولايات، ولتعاظم”فوبيا”الغرب المسيحي العبري مما يقارب المليارين -اليوم- من أمة المسلمين في العالم!
ثم، ما صحة ونجاعة وعلمية “فرضية الانتقال الديموغرافي”، نفسها، اصلا، وما إذا لم يتم -حقا – اعتماد المالتوسية (نسبة إلى الاقتصادي الأنجليزي الكلاسيكي مالتوس طوماس)، إبان جائحة كوفيد 19، وغيرها، في تخوم إفريقيا، كالإبولا، وغيرها، في العالم، مع ما يتطلب ذلك من رفع التحديات على مستوى تنظيم الأسرة النووية و الإختلالات المواكبة للصناديق الاجتماعية، كصندوق التقاعد، وغيره، مثلا، ومن مشاكل على مستوى التغطية الصحية، وغيرها، لا الحصر؟!
هكذا نحن نوجد أمام مواضيع علمية وعملية تعتبر من صلب كلاسيكيات الاقتصاد السياسي، كضبط العلاقة بين الديموغرافيا والنمو الاقتصادي، ونظريات المعرفة / الرأسمال البشري، التي تعتبر كل من التعليم والصحة والشغل وأثر كل ذلك على الإنتاجية-المردودية الحدية، وغيرها، من أهم رافعات التنمية المستدامة Développement durable، في لغة اليوم.
ذلك، فضلا عن موضوع الحركية Mobilité الفردية والإجتماعية والإستحقاقية Méritocratie عبر التعليم والتكوين، وغيرها، و التي أسس لها وبرع في دراستها علماء الاجتماع التربوي النقدي….كبورديو في الغرب و إباعقيل وغيره، عندنا، في المغرب.
بيبليوغرافيا مقتضبة
- بوشعيب زيات ومن معه، السياسة التعليمية بالمغرب وتكافؤ الفرص: تعميم التعليم الأولي، جامعة السلطان مولاي سليمان،2024، المغرب.
- توفيق عطيفي، السياسات العمومية التعليمية في المغرب، حالة أكاديمية مراكش- آسفي، 2024، المغرب.
- انطونيو غرامشي، الفكر البيداغوجي عند غرامشي، 1980، ودفاتر السجن،1975، المنشورات الاجتماعية، فرنسا.
- بيير بورديو، معاودة الإنتاج، عناصر تحليل النظام التعليمي، مينوي،1981 ، فرنسا.
- المملكة المغربية، نتائج الإحصاء العام للسكن والسكنى، 2024، المغرب.